إنها الساعة الواحدة ظهراً، الشمس في كبد السماء.. «إنها حقاً في كبد السماء» قلت أُحدّث نفسي وأنا أنظر عالياً إلى ذلك الضوء الساطع المشعّ البعيد هناك الذي لا نلمس منه إلا الحَرّ الشديد، عاد ليذكّرنا أن أيام نسمات الهواء الباردة قد ولّت، وأن الصيف قد أفاق من سباته، أجلِس أنتظر خروج ابنتي من المدرسة، مرّت لحظات كثيرة قبل أن تظهر من بين الجموع الغفيرة أمامي فتحت باب السيارة، وألقت بجسدها متنهّدة على الكرسي بيأس، أخذت تنظر إليّ.سألتها «ماذا هناك؟» قالت بتوتر «أخطأت في اسم أحد قادة المعارك في الامتحان» وأسرعت تُخرج كتابها لتتأكد وقالت تُذكّر نفسها «قاد معركة عين جالوت سيف الدين قطز، ومعركة أجنادين خالد بن الوليد، ومعركة حطين صلاح الدين الأيوبي» تنهّدَتْ بعُمق، وقالت» لا لم أُخطئ إجاباتي صحيحة» فقلت لها مازحة، وما كان اسم الجنود الذين شاركوا في المعركة؟ نظرت إليّ ابنتي وأجابت ببرود «يقول الفلاسفة إن التاريخ لا يتذكر الجنود».للحظة ضعت بين أفكاري في محاولة لاستدراك ما قالته، نظرت إليها باستغراب وهي تتحدث، نعم التاريخ لا يتذكر الجنود، لا يوجد كتاب تاريخي واحد ذُكر فيه أسماء من شاركوا في تلك المعارك، كتب التاريخ تخلّد القادة فقط.وإن كانت كتب التاريخ كما هو التاريخ لا يذكر أولئك الجنود، فهل نفعل نحن؟ في وقتنا الحاضر هل نُخلّد أسماء العاملين في الظل؟ ألا يُخلّد الناس أسماء الشخصيات المؤثرة في حياتنا اليومية مع عدم الالتفات لمن كان سبباً وراء هذا التأثير؟ على سبيل المثال كلنا نعرف أوبرا وينفري مقدمة برامج الحوار الشهيرة، لكن من منا يعرف اسم مُعدّ البرنامج أو طاقم التصوير مثلاً؟ من منا يعرف اسم المخرج أو فريق التسويق؟ لا أحد يعرف أسماء العاملين خلف الشاشات.ليطرح السؤال المهم نفسه الآن، من أريد أن أكون في هذه الحياة؟ قائد يتذكرني التاريخ؟ أم جندي بسيط ضمن مئات الجنود في المعركة؟ هل سأكون الشخص المشهور أمام الشاشة، أو سأكون أحد العاملين خلف الشاشات؟ هل سأقف أمام النور ليراني الناس أو سأكون ضمن الآلاف الواقفين في الظل؟إن إجابة هذه التساؤلات قد لا ترضي الكثيرين، قد يعمل الإنسان بكامل طاقته كل يوم لكنه متى ما وجه هذا العمل لخدمة غيره فهو سيبقى غالباً الجندي المجهول في المعركة، في حين أن قيامه بإنجاز نفس العمل بتوجيه مباشر له هو وحده سيجعل منه ذلك النجم الساطع بطل الشاشة، الفارق هنا نحو من نوجه الطاقة الكبيرة التي نحملها داخلنا؟الوظائف وجدت لتكون سبباً لنطور به قدراتنا، لكنها إن لم ترسم لك طريقك نحو أعلى السلم فهي ستبقيك دائماً خلف الشاشة، الوظيفة التي ستبقيك مقيداً في مكانك لسنوات طويلة لن تكون سبيلك نحو تحقيق النجاح.الخلاصة: لم نُخلَق لنكون سبباً لتحقيق الآخرين أحلامهم، ولندفع ثمناً لها أحلامنا نحن، لم نُخلَق لنكون مجرّد أداة تدفع البعض نحو الضوء لنختبئ بعدها نحن في الظل، لا بأس أن تكون موظفاً طموحاً تريد أن ترتقي سلّم النجاح، لكن حين تجد نفسك في ذلك المكان الذي اختفت سلالمه لا تنتظر كثيراً تذكر دائماً وأنت في طريق سعيك أن التاريخ لم يذكر الجنود.