في كل يوم نصادف إعلانات عن دورة تدريبية غالباً ما يكون عنوانها على وزن «تعلم برمجة الذكاء الاصطناعي في أربع ساعات» و«خبير في التحكيم الدولي في يومين»، وبالتأكيد ستحصل على شهادة بريطانية معتمدة من «سلوم سلوم» ومطبوعة في غرفة شقته الصغيرة في أحد الأحياء الشعبية، أما الدورة فقد نفذها مدرب يعاني من حالة اكتئاب وهوس في الوقت نفسه، وله خبرة طويلة في «بلع» الهواء وإخراجه على شكل كلام، وبالنسبة للدورة فقد نفذت في كافتيريا متواضعة وفي الفترة الأخيرة بعد أحداث كورونا أصبحت أون لاين، المهم في آخر المطاف هناك ورقة تقدم للمشترك تسمى شهادة.يتقدم كثير من الأشخاص اليوم إلى وظائف مختلفة في سوق العمل مسلحين بعدد هائل من الشهادات، التي ضاقت بها السيرة الذاتية، ويرفقونها مع الوثائق المطلوبة ويعدونها مقدسة، وعلى من يوظفهم النظر فيها، أما المهارات اللازمة للوظيفة فهي شبه معدومة لأنها في الواقع أمر غير مهم بالنسبة لهم، المهم أنه يملك سيرة ذاتية أطول من حياته، وأنه قادر على سرد خبراته التي يمتلكها «على الورق» ولأنه حضر عدداً كبيراً من الدورات وكانت في تخصصات مختلفة تحت شعار «تطوير الذات» فستجده يناقش في التحولات الاقتصادية القادمة وبعد لحظات عند تحول الموضوع يناقش في طريقة تحضير الكوكيز بالشوفان، لأنه سبق وأن شارك في دورة مدتها خمس عشرة دقيقة بعنوان «كيف تصنع وجبة شوكولاتة صحية وخفيفة»، مكوناتها ربع كيلو سكر وربع كيلو كريمة، قدمتها خبيرة الصيام المتقطع تهاني حلويات، لكنه مع كل هذه الدورات التدريبية والنقاشات الأفلاطونية التي يشارك فيها لا يعرف كيف يغير إعدادات الواي فاي في جهازه، ولا يمكنه كتابة بريد إلكتروني واحد بلغة مفهومة أياً كانت اللغة! يتقدم لوظيفة خبير التسويق الرقمي لكنه لا يعرف إعداد إنستغرام ولا ساعات النشر المفضلة، ومع ذلك هو حاصل على شهادة دبلوم تخصصي في التسويق الرقمي، كل ذلك لأنه وضع هدفاً واحداً وحققه، وهو تعبئة السيرة الذاتية بأي شيء ثم تطويلها، وتزيين «حائط إنجازاته» بتلك الأوراق المؤطرة والتي تسمى شهادات، ولا ننسى الصورة التي وثقت هذا الحدث الجليل وذلك لحظة استلامه الشهادة، وفي الواقع العملي كل ذلك لا قيمة له، لأن المسؤول عن التوظيف عندما يشاهد هذه الشهادات في السيرة الذاتية وهي تقفز أمامه في كل صفحة، يكون انطباعاً سيئاً عن المرشح، وعلى كل حال هو يبحث عن توفر المهارة اللازمة للوظيفة في المرشح.والنتيجة ماذا يحصل لأولئك الذين تشبعوا بهذه الأوراق وجمعوا عدداً هائلاً منها كما يجمع هواة الطوابع طوابعهم، هل اكتفوا؟ الواقع يقول لا، لأنهم انتقلوا إلى نوع آخر من الدورات وهي تلك الدورات التي تعرف بـ(TOT) دورات تدريب المدربين، وما الحاصل، هل سيدربون بها غيرهم؟ الجواب لا، لأن هذه العملية تحتاج إلى محتال من نوع آخر، وهو نفسه الذي أدخلهم في كل تلك الدورات ثم قدم لهم النوع المحدث منها، فيبدأ المساكين رحلة جديدة لجمع شهادات تدريب المدربين في كل التخصصات، هذه المسألة أزمة حقيقية لأصحابها فلا إبداع ولا فهم ولا عمل، وعلى كل من يسعى لها أن يفكر قليلاً قبل أن يعلق شهادتها على الحائط، ماذا علق من معارف في ذهنه منها.عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية
شهادة معتمدة
أ.د. فراس محمد
أ.د. فراس محمد