انقضى اليوم الأول من عيد الأضحى، ذلك اليوم الذي بمجرد انتهائنا من صلاة العيد، تتسابق خطواتنا نحو زيارات المجالس والأهالي، لقاءات دافئة، وضحكات حقيقية وتهانٍ تمتزج برائحة العود والبخور. ولكن، في زحمة هذه اللحظات الجميلة، بدأنا نشعر أننا نحضر عزائم خاصة بالهواتف الذكية أكثر من حضورنا لمجالس البشر!

صار من المألوف اليوم، حين تدخل أحد المجالس البحرينية، أن تجد الجميع حاضراً بجسده فقط، أما روحه فتجوب عوالم «السناب» و«التيك توك» و«الإنستا». تتعالى أصوات الطقطقة على الشاشات حتى تكاد تُغطي على صوت «الدلة» وهي تسكب قهوة العيد بنكهة الهيل والزعفران. تلتفت يميناً، فتشاهد قريبك الذي صار أشبه بمغامر قادم من جبال الألب بفضل فلتر الثلج، وتنظر يساراً فترى خالك يتحول إلى شخصية كرتونية ضاحكة دون مناسبة. أما الواقع الذي نعيشه فعلاً؟ أصبح مجرد خلفية مملة لا تليق بالبث أو النشر.

سابقاً، كانت مجالسنا بسيطة ومفعمة بالحياة، جلسات للكبار يستمع فيها الصغار إلى أخبار الفرجان، وسوالف الأهل والأقارب، والذكريات الدافئة عن أيام الزمن الجميل. أما اليوم، فالطفل نفسه بات المسؤول عن التصوير والبث المباشر مع تعليق ساخر: «قعدة عائلية مملة جداً!».

بات الهاتف فرداً ثالثاً غير مرغوب في كل العلاقات، يدخل بين الزوج وزوجته، الأم وابنتها، وحتى بين الإنسان وذاته. تفيق على نغمة إشعار بدلاً من صوت الأذان، وتغفو وعينك على فيديو «طقطقة» أو مقطع «ترند» خالٍ من أي معنى حقيقي. صرنا نعيش عبر الشاشات، نعبّر عن مشاعرنا عبر «الإيموجي»، بينما الحوار الحقيقي يتآكل كأنه قارب صيد قديم يفقد مجاديفه في مواجهة تيارات التكنولوجيا.

في البحرين، البلد الذي تُقاس فيه المسافات بين البيوت بخطوات قليلة، تجد شخصين في البيت الواحد يتراسلان عبر الواتساب! واللطيف في الأمر أن يقول لك أحدهم: «ولهان عليك!» وهو على بعد خطوتين منك. لقد غرقنا في ما يمكن وصفه بـ«التباعد العاطفي المقنّع»، نتتبع أخبار الآخرين وننسى أن نعيش حياتنا التي تتسرب من بين أصابعنا كالوقت.

لسنا بحاجة للعودة إلى الحمام الزاجل، ولا مقاطعة الإنترنت، لكن بعض التوازن لن يضر أبداً. جرّب أن تتحاور مع ابنك دون ضوضاء «التيك توك»، وأن تقرأ وجه زوجتك بدلاً من قراءة تغريدة مجهولة المصدر. ضع هاتفك في وضع الصامت قليلاً، لعل صوتك الداخلي يكون أرقّ وأكثر وضوحاً من صوت الإشعارات المتلاحقة.

نحتاج فعلاً إلى «تطبيق إنساني» يعيد ترتيب أولوياتنا، و«فلتر واقعي» يظهر من نحبّ قبل أن يظهرنا، و«تحديث داخلي» يعيد تعريف معنى اللقاء والاجتماع. لا تكنولوجيا في العالم تُغني عن حضن أم، أو نظرة فخر من أب، أو ضحكة صادقة تخرج من القلب وليس من الشاشة.

مجالسنا البحرينية التي كانت تضج بأحاديث الناس وأخبار السوق المركزي وأسعار السمك والطماطم، كانت تنعش الروح أكثر من أي «ستوري» أو «بوست». القعدة التي تخلو من حوار حقيقي وضحكات صادقة حول زحمة شارع البديع، تظل ناقصة مهما امتلأت فلترات الهواتف.

لنواصل فرحتنا بالعيد وبلقاء الأحبة، ولنجرب في لقاءاتنا القادمة أن نرفع رؤوسنا قليلاً، وأن نرى وجوه من نحب بدلاً من شاشاتنا، لنستمتع بضحكات تخرج من القلب وتُحفظ في ذاكرة العمر، لا في ذاكرة الهاتف فقط. كل عام وأنتم بخير!

* خبير تقني