في زمنٍ تتسابق فيه الدول نحو تحقيق الأمن، اختارت البحرين أن تتقدم خطوة أبعد: أن تجعل من العدالة رافعة للإصلاح، لا مجرد وسيلة للعقاب، وفي الوقت الذي لاتزال فيه أنظمة عقابية تقليدية دولية ترزح تحت أعباء الاكتظاظ والانتهاك والتكرار، تبرهن البحرين -من واقعٍ ملموس لا شعارات- أن الإنسان لا يُبنى في الزنزانة، بل يُستعاد في المجتمع.

لقد مثّل المؤتمر الدولي الأول للعقوبات البديلة والسجون المفتوحة، الذي نظمته وزارة الداخلية، ليس مجرد تظاهرة مؤسساتية، بل إعلاناً استراتيجياً عن مرحلة جديدة في مسار العدالة الجنائية في المملكة، مرحلة عنوانها: إصلاح الجاني، وصون المجتمع، وصناعة الأمل.

كلمة معالي وزير الداخلية معالي الفريق أول الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، جاءت حاملة جوهر الفكرة: «العقوبة البديلة هي حبل نجاة لمن أدرك خطأه». إنها ليست مجاملة بلاغية، بل فلسفة متكاملة تؤمن أن الدولة لا تعاقب لتكسر، بل تؤدب لتبني، وتحاسب لترشد، فالعقوبة البديلة ليست تساهلاً، بل مسؤولية مشروطة، تمنح المخطئ فرصة تصحيح المسار، وتحفّزه على الاندماج المنتج في مجتمعه، هذه الرؤية تحولت إلى منظومة متكاملة، بدأ تنفيذها منذ 2018، وأثمرت عن نتائج تستحق الوقوف عندها:

1- أكثر من 6370 مستفيداً من العقوبات البديلة حتى مارس 2024، ضمن فئات مختلفة من المواطنين والمقيمين.

2- معدل العودة للجريمة بين المستفيدين لم يتجاوز 2.3%، وهو من أدنى المعدلات عالمياً (مقارنة بـ20-50% في العديد من دول العالم).

3- تراجع عدد المخالفين لشروط العقوبات البديلة من 129 حالة في 2018 إلى أقل من 40 حالة في 2023، ما يعكس نجاعة الرقابة المؤسسية والالتزام المجتمعي.

4. إطلاق مركز التميز للعقوبات البديلة والسجون المفتوحة، كمؤسسة تدريبية فكرية، يعكس إرادة الدولة في التحول إلى مركز إقليمي للعدالة الإصلاحية الحديثة.

ما أنجزته البحرين لا ينفصل عن رؤية شاملة أطلقها حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم، وأعاد تجسيدها على الأرض صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، لتكون العدالة جزءاً من مشروع الدولة الحديثة، مشروع لا يكتفي بحفظ الأمن، بل يصونه عبر إعادة تأهيل الإنسان، لا الانتقام منه.

إن فتح أبواب بديلة أمام المحكومين -من العمل المجتمعي إلى المراقبة الإلكترونية إلى الإقامة الجبرية- ليس تنازلاً عن السيادة القضائية، بل هو تجديد في مفهومها، وإدراك بأن التكلفة الاجتماعية للسجن ليست مجرد نفقات مالية، بل ضياع أسر، وتفكك عائلي، وإعادة إنتاج للجرائم، وتشير الدراسات إلى أن كلفة السجين التقليدي سنوياً قد تصل إلى آلاف الدنانير، بينما تقل تكلفة العقوبة البديلة بنسبة تتجاوز 60% ما يخفف من أعباء الدولة ويعزّز استدامة العدالة.

وعلى هذا النحو، فإن العدالة الإصلاحية باتت تمثّل ضماناً لكرامة الإنسان، وأساساً للوقاية من الجريمة، ودعامة لبناء الثقة بين المواطن ومؤسساته.

حين تحدّث السفير الأمريكي في البحرين عن تجربة المملكة في العقوبات البديلة، وصفها بـ«الملهمة»، مشيداً بإرادة الإصلاح وسيادة القانون، كذلك، تلقى المؤتمر إشادة واسعة من الوفود والمنظمات الإقليمية والدولية، ما وضع البحرين في موقع الريادة الخليجية والعربية في تحديث العدالة الجنائية.

في المقابل، كثير من الدول مازالت تعاني من فوضى تشريعية، ونزاعات بين سلطات، وغياب البدائل القانونية الواقعية، ما يجعل تجربة البحرين بمثابة خارطة طريق لكل من يسعى إلى عدالة متحضرة وإنسانية، وأهم ما جاء في المؤتمر لم يكن في الكلمات، بل في ما بين السطور.

هناك دعوة صريحة إلى:

1- تحديث التشريعات المرتبطة بالعقوبات البديلة باستمرار، لتشمل الجرائم الإلكترونية والجنح الحديثة.

2- إشراك القطاع الأهلي والخاص في برامج إعادة التأهيل، ما يفتح آفاقاً أوسع للتنمية.

3- خلق وعي مجتمعي يدرك أن «العدالة ليست بالسجن فقط»، بل أحياناً بالفرصة والاحتواء.

4- تأسيس شبكة إقليمية عربية لتبادل الخبرات في مجال العدالة الإصلاحية.

في وقتٍ تتزايد فيه التحديات الأمنية والاجتماعية، اختارت البحرين أن تراهن على الإنسان، أن تحوّل القانون من قيد إلى فرصة، أن تجعل من العدالة مشروعاً للتنمية، لا أداةً للانتقام.

اليوم، أمام كل مواطن بحريني، قصة نجاح تُروى على أرض الواقع، نجاحٌ يبدأ بقانون شجاع، ومؤسسة يقظة، ومجتمعٍ شريك في الإصلاح.

وهكذا تكتب البحرين -مرة أخرى- فصلاً جديداً في كتاب الدولة الحديثة، حيث تُمارَس العدالة لا كسلطة، بل كقيمة تُعلي من شأن الإنسان وتُعزّز أمن الأوطان.

* إعلامية وباحثة أكاديمية