يشهد العالم تحولاً لافتاً في فلسفة الاستثمار، لم يعد الربح المالي هو الهدف الأوحد، بل باتت المؤسسات والمستثمرون يبحثون عن مزيج متوازن بين العائد المالي والأثر الاجتماعي والبيئي. من هنا، برز مفهوم الاستثمار المؤثر (ImpactInvestment) بوصفه رافعة قوية للتنمية المستدامة، ووسيلة فعالة لحل التحديات المجتمعية من خلال أدوات السوق.الاستثمار المؤثر هو توجيه رأس المال نحو مشاريع أو مؤسسات تسعى إلى تحقيق أثر اجتماعي أو بيئي إيجابي قابل للقياس، إلى جانب عائد مالي للمستثمر. ويختلف هذا النوع من الاستثمار عن التبرع الخيري أو المسؤولية المجتمعية، بكونه يستلزم استرداد رأس المال مع عوائد محددة، دون التفريط بالأهداف التنموية.وفقاً لتقرير مؤسسة GIIN (Global Impact Investing Network) لعام 2023، فإن حجم سوق الاستثمار المؤثر العالمي بلغ حوالي 1.164 تريليون دولار أمريكي، ما يعكس التوسع السريع في هذا القطاع وتزايد اهتمام المستثمرين بالأثر طويل المدى.الخصائص المميزة للاستثمار المؤثر:1. نية واضحة لتحقيق أثر إيجابي: أي أن الأثر الاجتماعي أو البيئي ليس نتيجة جانبية، بل هدف أساسي.2. قابلية القياس: من خلال مؤشرات ومقاييس تقييم أداء.3. العائد المالي: يختلف من مشاريع ذات عوائد سوقية إلى مشاريع بعوائد منخفضة ولكن مضمونة.4. تنوع القطاعات: يشمل الصحة، التعليم، الطاقة المتجددة، تمكين المرأة، الزراعة المستدامة، وغيرها.وأعرض لكم عدد من النماذج والتجارب رائدة عالمياً في هذا المجال:1) صندوق أكيومن (Acumen Fund) – نيويورك:من أوائل الجهات التي روّجت لمفهوم الاستثمار المؤثر، حيث تستثمر في شركات ناشئة تخدم الفقراء في مجالات الصحة والتعليم والطاقة. على سبيل المثال، دعمت شركة «d.light» التي توفر حلول طاقة شمسية للمناطق النائية في أفريقيا وآسيا، مما مكّن أكثر من 100 مليون شخص من الوصول إلى إنارة نظيفة.2) مؤسسة أوبن سوسايتي (Open Society Foundations):أنشأت ذراعاً استثمارية لتوجيه جزء من أموالها في صناديق عقارية وتعليمية تحقق العدالة الاجتماعية وتحارب التمييز.3) صندوق Bridges Fund Management - المملكة المتحدة:يموّل مشروعات تعليمية وصحية في المناطق الفقيرة، وحقق عائداً سنوياً يتراوح بين 5-8%، مع أثر اجتماعي ملموس من حيث تحسين فرص التعليم ومعدلات التوظيف.وبالرغم من النمو الملحوظ، يواجه الاستثمار المؤثر تحديات، منها: ضعف أطر قياس الأثر في بعض الأسواق، ونقص الوعي المؤسسي وغياب الحوافز التشريعية بالإضافة إلى خوف المستثمرين من ضعف العوائد مقارنة بالاستثمار التقليدي.لكن الفرص واعدة، لا سيما في دول الخليج، حيث تتوفر وفرة مالية، وبنية تحتية رقمية، وشباب ريادي، وسوق بحاجة لحلول تنموية ذات كفاءة. كما أن إدماج الاستثمار المؤثر في الأوقاف والمنظمات غير الربحية يمثل فرصة مزدوجة لتعظيم العوائد واستدامة الأثر.الاستثمار المؤثر لم يعد مجرد «اتجاه» أو «موضة»، بل أصبح إطاراً عملياً لتوجيه رؤوس الأموال نحو تحقيق الأثر المجتمعي والربح المالي معًا. في ظل التحديات العالمية كالاحتباس الحراري والفقر والبطالة، فإن مثل هذا النوع من الاستثمار يوفر مساراً مبتكراً يوازن بين الاقتصاد والقيم. وتكمن الفرصة الحقيقية في تسريع تبني هذه الأداة داخل السياسات المحلية، ودمجها في استراتيجيات الصناديق الوقفية، والمبادرات التنموية، وصناديق الاستثمار السيادية.
الاستثمار المؤثر.. أداة استراتيجية لتحقيق العوائد المالية والأثر الاجتماعي
القطاع الثالث
محمد سيف الأنصاري
محمد سيف الأنصاري