اليوم، لا حديث يعلو فوق حديث الحرب بين إيران وإسرائيل. صارت هي القاسم المشترك لأي لقاء بين اثنين، مهما اختلفت اهتماماتهما.
كل مجلس، كل مقهى، كل مجلس رجال، أصبح «غرفة عمليات» عسكرية متكاملة، تحليلات، قراءات سياسية، خرائط ذهنية، وتقديرات عسكرية تكاد تظن أن صانعي القرار في تل أبيب وطهران يستشيرون أهل المنطقة قبل اتخاذ أي قرار!
ووسط هذا الزحام من التحليلات والاجتهادات، لفت انتباهي زميلي العزيز «بوعبدالله» الذي فاجأنا بتحليل مختلف عما كنا نتصوره أو ننتظر.
بينما كنا نخوض في سيناريوهات الضربات الجوية والردود الصاروخية، وتوقعات التسرب الإشعاعي، قال بكل ثقة «أنتم تخشون من أمور قد حدثت فعلاً!».
تعجبنا جميعاً، فمن أين له هذا اليقين؟ فلا تقرير رسمي، ولا وكالة دولية، ولا حتى وسائل الإعلام، أشارت إلى وقوع تسرب نووي حتى الآن. سألناه، «وما دليلك يا بوعبدالله؟» فأجاب بثقة أكبر من السابقة، «أنتم أنفسكم الدليل! ألم تشتكوا جميعاً في الأيام الماضية من صداع متكرر؟ وثانياً والمهم ألم تلاحظوا أن البعوض اختفى فجأة؟ هذه مؤشرات خطيرة على وجود تلوث إشعاعي غير معلن!».
في لحظة صمت، أدركت أن ما يقوله بوعبدالله، رغم طرافته، يعكس ظاهرة أكبر، صارت تنتشر مع كل أزمة أو حرب أو كارثة كبرى، ظاهرة التحليل العفوي غير المستند إلى علم أو خبرة، الذي يملأ المجالس والأسواق ومجموعات التواصل الاجتماعي، ويزيد من توتر الناس، بدل أن يطمئنهم.
قلت له «يا بوعبدالله، الصداع الذي أصاب كثيراً من الناس هذه الأيام سببه السهر الطويل أمام نشرات الأخبار ومتابعة آخر التطورات، أما البعوض فقد اختفى؛ لأن بكل بساطة في فصل الصيف».
المشكلة الحقيقية ليست فيما قاله بوعبدالله، بل في أننا صرنا نعيش عصر الخبراء، الذين يتصدرون المشهد في كل أزمة دون علم أو دراية، ويطلقون التوقعات دون أن يقرؤوا تقريراً دولياً أو تحليلاً معتمداً.
هؤلاء يغذّون الخوف والقلق في نفوس الناس، ويصنعون حول الأزمات هالة من الرعب تفوق في أثرها ضرر الحرب ذاتها، إنه موسم تكاثر الحمقى.
إن الشعوب في الأزمات تحتاج إلى صوت الخبراء الحقيقيين، الذين يفهمون لغة الأرقام، ويقرؤون خرائط السياسة والجغرافيا بدقة، لا إلى محللي المجالس، الذين يربطون اختفاء البعوض بانفجار المفاعلات النووية!ما أخطر أن يصبح الخوف غذاءً يومياً للناس بسبب تحليلات مرتجلة، وما أحوجنا اليوم إلى كلمة علم وطمأنينة، لا إلى اجتهادات العابرين في المجالس.