مع تسارع التحوّل الرقميّ وهيمنة تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ؛ لم يعد اكتساب المهارات الرقميّة حكراً على فرق التكنولوجيا فقط؛ بل بات ضرورة ملحّة لكافّة موظّفي المؤسّسات بمختلف مستوياتهم وتخصّصاتهم. وتوضّح نتائج التقرير الأخير الصادر -قبل يومين- عن شركة ماكينزي آند كومباني أنّ الفجوة بين الموظّفين التقنيّين وغير التقنيّين أصبحت تحدّياً رئيسيّاً تواجهه المؤسسات والشركات -على حدٍّ سواء- لتحقيق النموّ المستدام وزيادة الإنتاجيّة.
من وجهة نظري، فإنّ النتائج الّتي توصّلت إليها ماكينزي تُبرز الحاجة الملحّة لتغيير منهجي في سياسات التطوير والتدريب المؤسّسيّ. فتأكيد التقرير على أنّ الشركات المتقدّمة تقنيًّا تحقّق عوائد أفضل، وتقلّل من الهدر بشكل واضح مقارنة بمنافسيها؛ يعكس مدى أهمّيّة استثمار المؤسّسات في تعزيز ورفع مهارات موظّفيها الرقميّة (Digital Upskilling)، والّتي تُعدّ اليوم من الأولويّات الاستراتيجيّة لضمان نجاح المؤسّسات وزيادة قدرتها التنافسيّة في سوق العمل اليوم.
وفي هذا السياق، أُشير إلى أهمّيّة ما توصّل إليه التقرير من أنّ غالبيّة الشركات تخطّط لزيادة استثماراتها في الذكاء الاصطناعيّ، لكنّ القليل منها فقط قد بلغ مرحلة النضج الكامل في هذا المجال. وفي تقديري، فإنّ هذا يشير إلى ضرورة أن تقوم المؤسّسات بمراجعة استراتيجيّاتها التدريبيّة الحاليّة وتوجيهها بشكل دقيق لسدّ هذه الفجوة الواضحة بين الطموح والواقع.
وأرى أنّ التركيز على الركائز الثلاث الّتي حدّدتها ماكينزي، والمتمثّلة في بناء المعرفة التقنيّة الأساسيّة لدى جميع الموظّفين بمن فيهم القيادات التنفيذية، وتعزيز الخبرة التقنيّة للمتخصّصين، ورفع مستوى فهم الموظّفين التقنيّين للجوانب التجاريّة والاستراتيجيّة(Business & Strategic Understanding)؛ تُعدّ استراتيجيّة متكاملة من شأنها دفع المؤسسات والشركات نحو التفوّق التنافسيّ.
كما تؤكّد الأمثلة العمليّة الّتي ذكرها تقرير ماكينزيّ، مثل تجربة إحدى الشركات العالميّة الّتي نفّذت برنامجاً تدريبيّاً رقميّاً شاملاً لأكثر من ثلاثة آلاف موظّف، وأدّت هذه المبادرة إلى ارتفاع واضح في مستويات الإنتاجيّة بنسبة تراوحت بين 20 إلى 40% في غضون عامّ ونصف فقط، على أنّ استراتيجيّات التعلّم الرقميّ المبتكرة قادرة على تحقيق نجاحات واضحة وقابلة للقياس. كما أنّ هذه التجربة تعكس فعّاليّة التدريب الرقميّ عندما يتمّ تصميمه وتنفيذه بشكل متكامل مع الأهداف الاستراتيجيّة للمؤسّسة، ممّا يجعلها نموذجاً جديراً بالدراسة والتطبيق في مؤسّسات أخرى ترغب في تعزيز تنافسيّتها عبر الاستثمار في المهارات الرقميّة.
من خلال النتائج والتوجهات التي قدّمها تقرير ماكينزي؛ يتضح أن هناك حاجة استراتيجية ملحّة لإعادة تقييم شامل لمفهوم التعلم الرقمي في المؤسسات. ورغم وضوح هذه الحاجة وأهميتها، يجب ألا نغفل وجود بعض العقبات والتحديات التي قد تواجه المؤسسات في سبيل تحقيق هذا الدمج الكامل. من بين هذه التحديات، قد تواجه بعضُ المؤسسات صعوبةً في تكييف الثقافة التنظيمية التقليدية مع متطلبات التعلم الرقمي الحديث، أو نقصاً في الموارد المادية والبشرية اللازمة لدعم هذه المبادرات.
لذلك، من وجهة نظري، يجب على المؤسسات ألا تكتفي فقط بإدراك أهمية التعلم الرقمي؛ بل عليها أيضاً مواجهة هذه التحديات بأساليب عملية وابتكارية، واعتماد منهجيات واضحة وقابلة للتطبيق، والسعي لإيجاد حلول إبداعية، بحيث يُصبح التعلم الرقمي عنصراً حيوياً متجذراً في العمليات اليومية والممارسات الإداريّة والاستراتيجيّة. إنّ المؤسّسات الّتي ستنجح في تحقيق هذا الدمج الذكيّ والمتكامل هي الّتي ستستطيع الصمود أمام التحدّيات، واستثمار الفرص المتجدّدة باستمرار في عصر يشهد تحوّلات تقنيّة غير مسبوقة.