عندما تتجول في الأحياء القديمة منها والحديثة، لا تجد حياً يخلو من ساحات تصلح لتجمع أبناء الحي واللعب فيها معاً، وهذه الساحات إما تكون حدائق صغيرة، والتي لا تخلو من ألعاب الأطفال: كالمرجيحة، والزلاقة، وإما تكون ساحات وملاعب تابعة لمركز اجتماعي أو مركز شبابي بالمنطقة، أو غيرها من الساحات، إلا أنك ستلاحظ في جولتك هذه أن غالبية هذه الساحات تخلو من أطفال وشباب الحي، فلا تجد شللاً من أبناء الحي يلعبون معاً بشكل شبه يومي، ويتفاعلون معاً ويتصاحبون، وإن وجدت أطفالاً يلعبون بها فقد لا يكونون من أبناء الحي، فلا تجدهم يلعبون معاً بشكل جماعي، فلا تربطهم علاقة جيرة أو قرابة أو صحبة.
لو سألت أحد أبناء جيل الطيبين عن ذكرياته في ملاعب الحي مع أبناء الجيران سيحكي لك أجمل الحكايات وأطرف المواقف وقلبه منتشياً بالفرح، فاللعب الجماعي مع أبناء الحي يعزز الصحبة بينهم وله أثر كبير على تنشئة الأطفال، فهو يسهم في بناء الصحة الجسدية والنفسية والاجتماعية لديهم، وخلال اللعب الجماعي مع أبناء الحي، يتعلم الأطفال مهارات حياتية لا يتعلمونها في أي مكان آخر، فيتعلم ابن الحي منذ صغره مهارات الانخراط في شلة الأصدقاء، فيكتسب مهارات القيادة، ويتدرب على احترام الدور، ويتعود على الاعتذار عند الخطأ، ويكتسب مهارات احتواء الخلافات بين أطراف الفريق الواحد أو كما كانوا يسمونها «شلة الأصدقاء»، كما يتعلم مهارات التواصل والاتصال مع الآخرين، ويكتسب القدرة على بناء الصداقات.
وقد أثبتت العديد من الدراسات النفسية مثل دراسة عالم النفس الاجتماعي، «إريك إريكسون»، أن اللعب الحر مع الأقران في الطفولة هو حجر الأساس في تكوين الثقة بالنفس وبالآخرين. فيتخرج الطفل من ملاعب الحي وقد اكتسب مهارات اجتماعية من الصعب أن يتعلمها في المدرسة، وهي مهارات ضرورية للحياة الاجتماعية والحياة المهنية على حد سواء.
فاللعب في الحي يُنمي عند الطفل شعوراً بأنه جزء من كيان أكبر، مما يعزز ولاءه للمكان كالحي والوطن والأشخاص كشلة الأصدقاء والعائلة والقبيلة، ويجعله يدرك مفهوم المسؤولية الاجتماعية، وأرى أن اللعب الجماعي بين أبناء الحي له فاعلية أكبر من اللعب الجماعي بين أطفال جاءوا من مختلفة المناطق ليلتحقوا في برنامج كرة قدم أو دورات كرة سلة أو غيرها من الألعاب الجماعية، فعلاقة الجيرة معززة بالعلاقة بين جميع أفراد الأسرة لتشكل ترابطاً اجتماعياً وثيقاً بين الأسر، وهو سبب في ترسيخ العلاقات الاجتماعية بين الجيران، وتقوية الروابط بينهم، وقد استوقفتني نتائج دراسة أجريت في جامعة هارفارد التي توصلت إلى أن الأطفال الذين يشاركون في ألعاب جماعية في بيئة مجتمعية آمنة يكونون أكثر قدرة على العمل ضمن فريق عندما يكبرون، ولا أدري هل غياب تنشئة الأطفال في ساحات الحي قللت من قدرتهم على العمل الجماعي، وانعكست سلباً على العلاقات بين الموظفين في بيئات العمل؟ سؤال يفرض نفسه!
نعم.. أطفالنا هم تنشئة شاشات الهاتف النقال وما تعكسه من برامج وفيديوهات، نعم.. هم منعزلون خلف الشاشات عن الحياة الاجتماعية والتفاعل المباشر بين الجماعات. تلك ظاهرة عالمية باتت قضية تؤرق المربين في كل مكان في العالم، لذا كانت هناك مبادرة من بعض المدارس الحكومية باليابان بتنظيم الألعاب الجماعية في الأحياء وبين أبناء الحي نفسهم، وتفيد نتائج المبادرة أنها خففت من العزلة الاجتماعية لدى الأطفال . نعم ..هي مبادرة أثبتت نجاحها ولكن هل تعممت لتكون جزءاً من ثقافة المجتمع؟ سؤال يفرض نفسه.
إن اللعب مع أبناء الحي الواحد ليس مجرد وقت مستقطع من حياة الطفل، بل هو مساحة للتعلم والنمو وتكوين الشخصية. وهو ميراث تربوي قديم يستحق أن نحافظ عليه، ونعززه في مجتمعاتنا الحديثة، وإن كانت التكنولوجيا قد أبعدت الأطفال عن الحياة الاجتماعية، فإن اللعب في ساحات الحي قادر على أن يجمعهم من جديد، ويعزز انتماءهم للحي وبالتالي يعزز انتماءهم للوطن بأسره. فيا أيها الآباء إن ساحات الحي تنادي أبناءكم فلبوا النداء.. ودمتم سالمين.