في أحد المجالس البحرينية، طُرح سؤال لم يكن مألوفاً، لكنه حمل في طياته جدلاً عميقاً حول العلاقة بين الصحافة والعدالة. سأل أحد الحضور، هل من حق أي صحيفة أو وسيلة إعلامية أن تنقل وقائع محاكمة قائمة في قضية جنائية، خاصة إذا كانت تحتوي على تفاصيل حساسة تمس سمعة الأشخاص وحياتهم؟

ما بدا في البداية سؤال مهني عن حرية النشر، سرعان ما تحوّل إلى مناقشة تحمل أبعاداً قانونية وإنسانية، بعد أن أضاف أحدهم تساؤلاً آخر أكثر دقة، هل يجوز للصحيفة أن ترسم صورة القضايا الجنائية بصورة قصصية، توحي للقارئ بأن المتهم هو المجرم فعلاً، وأن الضحية ملاك لا ذنب له؟ أليس في ذلك إخلال بمبدأ الحياد، وتحريف غير مباشر للحقيقة، وتوجيه للرأي العام قبل أن يقول القضاء كلمته؟

في لحظة ترقّب، تناظر الجميع، وكأنهم ينتظرون من يملك الكلمة الفصل. وحينها تكلّم أحد الحاضرين ممّن لهم باع في القانون، فقال، «القانون لا يمنع الصحف من نقل مجريات الجلسات طالما أنها علنية ولم يصدر أمر قضائي بمنع النشر».

وقد وافق الجميع على ذلك، واتفقوا على أن نقل المعلومة واجب إعلامي، وأن الشفافية في التغطية جزء من وظيفة الصحافة في خدمة المجتمع.

لكن بقي السؤال الأهم عالقاً، هل يجوز للصحيفة، وإن نَقَلت، أن تؤثّر؟ أن ترسم وتلوّن وتوجّه وتصدر حكماً ضمنياً قبل أن يفعل ذلك القضاء؟! بدا السؤال في الوهلة الأولى غريباً، لكن بعد قليل من التأمل، اتّضح أنه أكثر مشروعية من أي وقت مضى.

في كثير من القضايا، نلاحظ أن الشارع قد حكم قبل أن تنتهي إجراءات المحاكمة. صورة المتهم، التي (وإن كانت رمزية) تُنشر في الصحف، أو تُرافق الخبر، قد تُظهره في هيئة قاتل متعمّد، يحمل سكيناً، أو تبدو عيناه وكأنهما تنطقان بالذنب. أما الضحية، فغالباً ما تُرسم في صورة طفل باكٍ، أو امرأة مكسورة، أو رجل بريء غدر به الزمن. وهذا النوع من التصوير، وإن حمل بعداً درامياً، إلا أنه يضرب مبدأ العدالة في عمقه، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته.

وقد رجعتُ إلى قانون الصحافة البحريني رقم (47) لسنة 2002، وتحديداً الفصل السادس الذي يتناول المسؤولية الجنائية للصحف، فلم أجد نصاً صريحاً يُحرّم هذا النوع من التناول الإعلامي. إلا أن المادة (69 ب) تتضمّن إشارة واضحة إلى معاقبة من ينشر ما من شأنه المساس بكرامة الأشخاص أو حياتهم الخاصة. فهل رسم المتهم بصورة مذنب لا يُعدّ مساساً بالكرامة؟ وهل الترويج البصري والنفسي لفكرة الذنب لا يُعتبر تجريماً غير مباشر قبل صدور الحكم؟

إن ما هو أخطر من النص القانوني، هو ما تمليه علينا الإنسانية. نعم، الإنسانية التي يجب أن تسبق أي انفعال صحفي أو محاولة لجذب القارئ عبر الإثارة البصرية أو العاطفية. خلف المتهم، حتى وإن ثبتت إدانته لاحقًا، أسرة ستعيش الحزن والخذلان، وخلف الضحية أيضاً أهلٌ ينتظرون العدالة لا العناوين الصارخة.

لست هنا أطالب الصحافة أن تصمت أو تتجاهل القضايا – أبداً، فأنا جزء منها – بل أتمنّى منها أن تنقل لا أن تحكم، وأن تعكس الواقع لا أن تصمّمه، وأن تتحلّى بحسٍّ إنساني يجعلها تدرك أن لكل سطر يُكتب أثرًا في النفوس، وقد يكون له أثرٌ في مسار القضية نفسها.

كل ما نرجوه، أن تبقى الصحافة مرآةً للعدالة، لا قوساً لمحاكمتها.