دخلت تطبيقات الذكاء الاصطناعي بكثافة عالم السياحة، وأصبح كل شيء يدار عبر هاتف ذكي لا يفارق يد المستخدم طوال يومه، جعل الرحلات لم تعد تبدأ من المطار، بل من الشاشة. وجعل المدن السياحية تأتي إلينا في أماكننا لا أن نذهب إليها، ألغي شباك التذاكر القائم أمام كل معلم سياحي، وبدلاً من أن ندفع رسوم دخول الأماكن السياحية لوزارة الثقافة، صرنا ندفعها لشركات الاتصالات التي تمكنا من مشاهدة الفيديوهات السياحية والتعرف على الأماكن الأثرية، أصبح التسويق السياحي عبر وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من مجرد إعلان، بل بوابة إلى رحلة شعورية، حيث تتقاطع تقنيات الذكاء الاصطناعي مع علم النفس الثقافي وسرديات الصورة، لتصنع تجربة تمس الوجدان قبل أن تلامس الجغرافيا.
انتقل الخطاب السياحي من الإقناع إلى الإلهام؛ لم يعد يعرض فقط معالم الوجهة، بل يستفز فضول المستخدم بلقطات عاطفية – طفل يضحك، شمس تغيب – دون ذكر أسماء فنادق أو مطاعم. هذه التحولات تستند إلى نظريات معرفية مثل «النمذجة الشعورية» (Affective Modeling)، التي تثبت أن المحتوى العاطفي يضاعف أثره على نوايا السلوك السياحي.
بات الذكاء الاصطناعي اليوم أداة جوهرية، لا لفهم المستخدم فحسب، بل لاستباق رغباته وتحليل سلوكه الرقمي بدقة متناهية، من تفاعلاته مع الصور إلى توقيت توقفه على فيديو معين. بناءً على ذلك، تُصمم حملات سياحية «مفصلة» تلبي أعمق رغبات الجمهور: من يحنّ للهدوء تُعرض له البحيرات، ومن يتوق للحياة تُعرض عليه الأسواق والاحتفالات.
في المقابل، لم يعد المحتوى القصير سطحياً؛ بل أصبح مفتاح التأثير. مقاطع لا تتجاوز 30 ثانية على TikTok أو YouTube Shorts قد تتفوق على الكتيبات الدعائية، بفضل صدقها وسرديتها القريبة من الواقع. فمثلاً، فيديو لفتاة تتناول الشاي في فناء بيت قد يُحفّز الرغبة بالسفر أكثر من إعلان رسمي.
كذلك، تغير مفهوم «المؤثر». لم تعد الشهرة الرقمية كافية، بل تراجعت أمام المؤثرين المحليين الذين ينقلون تجاربهم بصدق، ما يعزز الثقة ويربط الجمهور بالمكان. حتى السائح لم يعد يبحث عن المكان فحسب، بل عن القيمة العاطفية والتجربة التي سيحملها معه.
اليوم، تسعى الحملات الذكية إلى تسويق السياحة المستدامة والتجريبية والروحية، مثل تجربة العيش مع القبائل أو التأمل في الطبيعة، حيث تتجسد رسالة تسويقية عميقة في صورة واحدة.
وأخيراً، لم يعد المطلوب خدمة عملاء تقليدية، بل حضور حي وتفاعل فوري. بث مباشر أو ردّ سريع على تعليق قد يبني ولاءً سياحياً يفوق آلاف الدولارات من الإعلانات.
لقد أصبحت فيه الرحلات تبدأ من القلب وتُروى عبر الشاشة، ولم يعد السفر مجرد انتقال جغرافي، بل صار تجربة وجدانية عميقة، ووسائل التواصل باتت المرآة التي نرى من خلالها المدن.. بل ونرى أنفسنا.
* دكتوراه في الإعلام الرقمي