فيصل الشيخ

زمن غريب بالفعل، تتقلب فيه الشعارات، ويغدو فيه الكلام مجرد كلام بلا مضامين، وقليل جداً من يحرص أن يقرن الأقوال بالأفعال.

مثلا حينما يتم الحديث عن الإنسانية، ومن واقع المشاهدات فيما يشهده العالم في بقاع عدة، يخيل إليك وكأن الحديث عن الإنسانية تحول إلى "ترف فكري" لا أكثر.

المؤلم أن عالمنا اليوم يكاد يتحول إلى ماكينة ضخمة، تدور تروسها بلا توقف، محكومة بهاجس المكاسب المادية والإنجازات العملية، حتى أصبح الإنسان نفسه جزءا من هذه التروس، يؤدي دوره ببرود، ويمضي دون إحساس، كأنه فقد بوصلة الرحمة التي تميزه عن كل ما سواه.

إن ما نفتقده ليس القدرة على الإنجاز أو الإبداع، بل القدرة على التوقف لحظة والتفكر، إذ هل ما نفعله حقا يعكس إنسانيتنا؟! هل نسعى لنجاح لا يترك خلفه ضحايا؟! هل نرتقي بالآخرين ونحن نرتقي بأنفسنا؟! فالحياة بلا إنسانية، مهما ازدانت بالنجاحات، هي حياة جافة خاوية من المعنى.

بالأمس احتفى العالم باليوم العالمي للإنسانية، لكن الحقيقة أن الإنسانية لا تختصر في يوم، ولا ينبغي أن تكون مجرد مناسبة نعلق فيها شعارات، ونلتقط الصور التذكارية. الإنسانية ليست حدثا يُحتفل به، بل سلوكاً متجذراً، يرافقنا في كل لحظة، ويظهر في كل موقف، مهما بدا بسيطًا، سواء في كلمة طيبة، أو في إنصاف مظلوم، أو في رفض ظلم، أو مد يد العون لمن يحتاجها.

الإنسانية لا تعرف التفرقة. ليست حكرا على جنس أو عرق أو دين أو طبقة اجتماعية. إنها المبدأ الجامع الذي يربط البشر جميعا، وهي الامتحان الحقيقي الذي يكشف معدننا عندما نُختبر في المواقف الصعبة. هل نسمح للظلم أن يمر بصمت؟! هل نغض الطرف عن معاناة الآخرين لأنهم "بعيدون" عنا؟! أم ندرك أن الجرح الإنساني، أياً كان موقعه، يخصنا جميعاً؟!

الخطر الأكبر ليس في غياب الشعارات، بل في الفجوة بين الشعارات والأفعال. كم من قادة، مؤسسات، وحتى أفراد، يرفعون لواء الإنسانية في خطابهم، بينما ممارساتهم اليومية تصرخ بغير ذلك. تهميش، استغلال، إشعال الحروب، وإشاعة الخوف والفوضى. هنا تسقط الأقنعة، وتظهر الحقيقة، فالإنسانية ليست كلمات، بل امتحان للأفعال.

العودة إلى الإنسانية ليست خياراً ثانوياً أو رفاهية أخلاقية، بل ضرورة وجودية. فالعالم الذي يفقد إنسانيته، مهما تطور تكنولوجيا أو اقتصاديا، هو عالم يسير بخطى ثابتة نحو هاوية من القسوة والاغتراب.

أعظم إنجاز يمكن أن نحققه لا يقاس بعدد المشاريع ولا بحجم الأرباح، بل بمدى قدرتنا على أن نظل بشراً بحق. أن نُبقي قلوبنا حية، وأفعالنا شاهدة على إنسانيتنا، كل يوم، وكل لحظة.