تخيّل أنك تساهم في بناء مسجد أو مركز خدمي أو مشروع تنموي، بدافع الخير والثقة في القائمين عليه، ثم بعد سنوات تفاجأ بأن المشروع متوقف، أو أن الأموال التي جمعت له لم تحقق الهدف، ويُطلب منك التبرع مجدداً لاستكمال ما بدأ.. هكذا يتحول العطاء إلى عبء، وتتحول الثقة إلى خيبة.
في الوقت الذي يُلزم فيه القانون أعضاء مجالس إدارات الشركات التجارية بتحمّل تبعات قراراتهم الإدارية، بما في ذلك الخسائر الناتجة عن الإهمال أو سوء الإدارة، نجد أن الحال يختلف تماماً في الجمعيات الأهلية. فحتى مع تعثّر مشاريع كبرى أو ضياع أموال عامة – جُمعت من تبرعات الناس أو أموال الأوقاف – لا نجد مساءلة فعلية أو محاسبة واضحة.
هذه الفجوة القانونية والأخلاقية تزداد خطورتها مع المشاريع الضخمة التي تديرها الجمعيات، وتشمل المراكز التجارية والمجمعات الخدمية، إضافة إلى بناء المساجد والمشاريع التنموية الممولة من أهل الخير. ورغم ضخامة هذه المشاريع وأهميتها، فإن فشلها أو تعثرها لا يترتب عليه أي مسؤولية حقيقية على مجالس الإدارات، وقد تبقى مجمدة لسنوات بسبب بطء الإجراءات أو ضعف المتابعة، دون محاسبة أو مراجعة.
ولسد هذه الثغرة، نحتاج إلى إطار قانوني ملزم، يعامل المشاريع الكبرى للجمعيات الأهلية معاملة الشركات التجارية من حيث إلزام أعضاء مجالس الإدارات بتحمل المسؤولية القانونية والإدارية عن أي تعثر ناتج عن تقصير أو قرارات خاطئة. ويشمل ذلك آليات مراجعة دورية للأداء، وإفصاحاً مالياً شفافاً، وصلاحيات حقيقية للجهات الرقابية في التحقيق والمحاسبة.
وللإنصاف، فقد شهد قانون الجمعيات الأهلية تطوراً ملحوظاً في العهد الإصلاحي لجلالة الملك المعظم منذ 2002، مانحاً الجمعيات حرية أوسع في أنشطتها ونظام عملها، مع وضع قواعد للشفافية والمتابعة وصلاحيات رقابية لوزارة التنمية الاجتماعية. غير أن ما ينقص هو الانتقال من المتابعة الشكلية إلى المساءلة الفعلية التي تحدد بوضوح مسؤولية الأفراد عن القرارات المؤدية للخسائر أو التعطيل، مع التأكيد على أن حوكمة الجمعيات، وترسيخ ثقافة المحاسبة، هي الطريق نحو تحويل العمل الأهلي من جهود تقليدية قائمة على المبادرات الفردية، إلى منظومة مؤسسية احترافية تحمي المال العام وتضاعف أثره، وتبني ثقة المجتمع على أسس راسخة لا تهتز.
حتى لا يشعر المتبرع البسيط أن جهده وماله ذهب سدى، حين يرى مشروعًا تعطل لسنوات بلا مبرر، أو مبادرة توقفت عند نصف الطريق. هذه الخيبة لا تضر مشروعاً بعينه فقط، بل تهز الإيمان بفكرة العمل الأهلي نفسها، وتغلق أبواب الخير أمام من هم في أمسّ الحاجة إليه.
فالمال الذي يُجمع من الناس أمانة، لا يجوز أن يُهدر تحت غطاء النوايا الحسنة أو المجاملات، والشفافية والمساءلة ليست ترفاً تنظيمياً، بل حجر الأساس لاستدامة العمل الخيري ونجاحه. خطأ القلة قد يهز ثقة المجتمع كله، والثقة لا تُصان إلا بالرقابة والمساءلة.
همسة
شكراً لوزارة التنمية الاجتماعية على حرصها وجهودها في تطوير ومتابعة العمل الأهلي، فالجميع يدرك أن استمراره القوي والمنظم هو صمام الخير والتكافل في المجتمع.