العظماء والكبار لا يأتون إلى هذه الدنيا كمثل بقية الأطفال، بل يمنحهم الله أول، وأقسى دروسه وهم في عمر صغير للغاية، وهو في بطن والدته توفى والده، ورفضن نساء قريش في عام شديد القحط إرضاعه كونه بلا أب، ولا تعود رضاعتهن عليهن بالخير والأجر، فأرضعته حليمة السعدية، رغم أنها في البداية رفضته، لكنها عندما لم تجد طفلاً قررت العودة، وأخذه أملاً في أن يجلب لها البركة وفعلاً جلب لها البركة، وعمره لا يتجاوز السبع سنوات أخذته والدته لزيارة قبر والده الذي لم يشاهده ويعرفه في حياته، فقد مات قبل أن يولد، وفي طريق العودة ما بين مكة والمدينة المنورة مرضت والدته، وماتت وهي تحتضنه وكانت تقبله وتبكي، توفيت أمه ولم تكن معه سوى امرأة اسمها أم أيمن كفنت أمه بثيابها، وطلبت منه أن يساعدها لحفر قبر أمه ودفنها، وظل ساعات بيده الصغيرتين يحفر القبر، ودفن أمه وهو يبكي ودموعه تنهمر كمداً وقلبه الصغير يتحمل ألماً كبيراً لا يقوى عليه الكبار.
وتولى أموره جده عبدالمطلب حيث نشأ يتيماً فقيراً يرعى الغنم ليعمل ويكسب رزقه، إنه سيد المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، لقد تميزت طفولته عن العالمين بالاختبارات والابتلاءات الكبيرة؛ لأن الله كان يهيئه للنبوة وأمور عظيمة في المستقبل، رعايته للغنم علمته الصبر والتحمل والرحمة والأمانة والنزاهة واليقظة وقوة التركيز، وبعد وفاة جده تولى أموره عمه أبو طالب.
عاش الرسول وسط مجتمع ينتشر فيه الشرك وعبادة الأصنام، ولكنه لم يعبد صنماً قط، ولم يشرك بالله، وفي بداية الدعوة الإسلامية عندما اصطفاه الله ليكون نبياً لأمته عانى الكثير من الاضطهاد، وقام المشركون بفرض حصار جائر على أهله من بني هاشم وبني عبدالمطلب؛ مما أدى إلى تجويعهم وعزلهم كما تعرض للعديد من التهديدات ومحاولات القتل، وبعد وفاة عمه أبو طالب وزوجته خديجة اضطر إلى الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بعد أن اتجه قبلها إلى أهل الطائف بحثاً عن مكان آمن للدعوة، فرفضوه أهلها ورموه بالحجارة، حتى شج رأسه وهنا تتجلى عظمة معاناته وصعوبة ما واجهه كونه فقد أهم الداعمين له ووسط موجة حزنه اضطر لترك أرضه بعد أن زاد التعذيب له، فعمه الذي كان يحميه منهم توفى ورأى وقتها أن مكة أصبحت بيئة صعبة للغاية تعرقل نشر الدعوة الإسلامية.
واجه أساليب شرسة وإجرامية في محاربة دعوته من قبل كفار قريش، واستخدموا العديد من الوسائل حيث عندما رأوا أن أثر دعوته انتشر بين أهل مكة في نبذ الأصنام أخذوا يمارسون معه أساليب الترغيب والترهيب؛ لأن هذا يهدد مصالحهم التي يجنونها من وجود الحرم في أرضهم، كما أنه يجرد حقيقتهم وبؤسهم في اقتراف السيئات والموبقات وأمور الجاهلية التي اعتادوا عليها حيث لجؤوا للتأثير على عمه أبي طالب ليكف عن الدعوة أو أقله تجريده من حمايته، لكن عمه وقف معه، ولم يرضخ لكلامهم. كما كان من أساليبهم الاتهامات الباطلة لصد الناس عنه اتهموه بالجنون وبالسحر وبالكذب، وأخذوا يشيعون أن القرآن الكريم ليس من الله -سبحانه- بل من عند البشر، واتهموا كل من اتبعه من المؤمنين بالضلالة كما كانوا يقومون باستمرار بالسخرية منه والاستهزاء والضحك والغمز واللمز والتعالي عليه، وعلى جماعة المؤمنين، وكان عمه أبو لهب معهم يدعمهم، وذلك كان جرح كبيراً بالتأكيد له أمام قومه أن عمه من أشد أعداء الإسلام وأول من خذل النبي وكذبه وكانت زوجة عمه تضع الشوك في طريق الرسول الذي يمر به إلى بيته والقذارة على بابه. أما عمه فأمر ابنيه عتبة وعتيبة بتطليق ابنتي الرسول رقية وأم كلثوم رضي الله عنهما وسخر ماله لإشعال الحروب مع الرسول وأصحابه.
هذه الأحداث البسيطة التي تعد قطرة من بحر معاناة سيد الخلق وأشرف المرسلين منذ ولادته إلى وفاته والتي نستعرضها تزامناً مع ذكرى يوم مولده الشريف الذي يعد بداية عهد جديد من النور والهداية والعدل والرحمة حيث بعث رسولاً يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويؤسس مجتمعاً إسلامياً يقوم على الرحمة والإيمان والمحبة والتعاضد فسيرة حياته خارطة طريق من نور ورسالة سماوية من رب البشرية إلى البشرية جمعاء بأن تأدية رسالة الله في الأرض وطريق الحق من المحال أن يكون مفروشاً بالورد.