تخيل مشهداً واقعياً بعد رحلة طويلة وحقائب تجرها وعقلاً نصف نائم وأطفالاً يغطون في النوم في المقعد الخلفي. وصلت إلى البيت متأخراً وتريد مفتاح الباب بسرعة ثم تكتشف أن المفتاح غير موجود في جيبك ولا في الحقيبة ولا في أي مكان منطقي. هنا تأتي تقنية «النطاق فائق العرض (UWB)» كأنها صديق يعرفك منذ زمن. ترفع هاتفك فيرشدك بسهم واضح لا يقول المفاتيح قريبة بل يهمس بثقة أنها في الحقيبة الصغيرة خلف المقعد. دقة تصل إلى سنتيمترات قليلة، فتشعر أن الهاتف قرأ نيتك قبل أن تتذكر أين وضعت كل شيء في المطار.
يعمل «النطاق فائق العرض» بحيلة بسيطة مفهومة. نبضات لاسلكية سريعة تقيس زمن الرحلة بينها وبين الشيء الذي تبحث عنه فتمنحك موقعاً دقيقاً وسريعاً. الأجمل أنه آمن. إذا كانت سيارتك تدعم «المفاتيح الرقمية» فلن تنفع حيل سرقة الإشارات لأن السيارة لا تفتح ولا تعمل إلا إذا كان هاتفك فعلاً قريباً منها، وليس قرباً وهمياً. وداعاً لفكرة أنا بعيد لكنني أخدع السيارة.
ويمتد أثر التقنية إلى تفاصيل يومية في البحرين. في مواقف مطارنا بعد السفر حيث تبدأ المتاهة من أول صف سيارات يعيدك الهاتف إلى سيارتك بخمس خطوات واضحة. وفي المراكز التجارية يتحول الضياع إلى مسار صغير درج يمين ثم ممر يسار ثم وجه مبتسم عندما تلمح سيارتك أخيراً. وفي النقل العام يمكن تصور بوابة تتعرف عليك وتفتح من غير تلويح بالمحفظة أو بحث عن رمز لأن حضورك نفسه صار بطاقة عبور موثوقة يتم تفعيلها بالمسافة لا بتطبيقات مربكة.
وفي البيوت تصبح السوالف بين الأجهزة مفهومة أكثر. تشير بهاتفك نحو مصباح المجلس فيفهم النظام أنك تقصد تلك المصباح تحديداً وليس مصباح الممر. الإضاءة ودرجة «المكيّف» تتكيف تلقائياً مع وجودك فتخف عند مغادرتك وتعود عند دخولك. وإن خرجت مسرعاً ونسيت المحفظة أو المفاتيح يذكرك الهاتف لأن «النطاق فائق العرض» تعرّف على بعدها الفعلي عنك. كل هذا يحدث مع استهلاك طاقة قليل وحديث لاسلكي مهذب لا يزعج «الواي فاي» ولا «البلوتوث» في البيت.
وأجمل ما في الحكاية أنها تهبط من شاشة العرض إلى الرصيف. المدن الذكية تتحرك عادة بتجارب صغيرة وجريئة تسبق الشعارات الكبيرة. في مطار البحرين يمكن تخيل ربط المواقف ومسارات الإرشاد عبر «النطاق فائق العرض» فتستعاد دقائق ثمينة لركاب مرهقين. وفي الجامعات والشركات قد تتحول فكرة التتبع الدقيق في المستودعات والمستشفيات إلى مختبر مفتوح يصنع خبرة محلية لا تُستورد جاهزة. في الخلفية يعمل اطمئنان تنظيمي يولده إطار واضح لـ«الطيف الترددي» فلا تتعارك الإشارات. ومع الخصوصية يصبح الأصل الإيقاف، ثم يختار المستخدم التشغيل بإشارة مفهومة لا بنص طويل متعب. الناس يريدون نظاماً يعينهم على العثور لا نظاماً يتتبعهم.
هكذا تظهر القيمة من دون خطب. الحكاية تبدأ من ألم صغير يتكرر ثم تُحل عقدته بسنتيمترات من الدقة. المفاتيح والبطاقات والحقائب حين تُعلّم بعلامات ذكية تتوقف لعبة الغميضة التي تستهلك أعصاب البيت. وفي بيئة العمل يهدأ المستودع حين يعرف النظام أين تقف الأشياء فعلاً لا تقريباً. ليست ثورة صاخبة، بل ضبطاً لإيقاع اليوم على مقاس الإنسان. وهذا بالضبط ما تعد به تقنية «النطاق فائق العرض» عندما تصبح جزءاً من المشهد من غير ضجيج.
* خبير تقني