لم يخطر ببال الطيار «تيم لانكستر» قائد رحلة الخطوط الجوية البريطانية 5390 المنطلقة من برمنغهام إلى ملقة، في 10 يونيو 1990 أنه سيعيش أقسى تجربة رعب في حياته، وأيضاً لم يخطر على بال مساعده «ألاستير أتشيسون»، أنه سيتعرض لأصعب امتحان مهني وعلمي في حياته، فكل أمور الرحلة كانت طبيعية ومستقرة، عندما كانت الطائرة تحلق فوق الريف الفرنسي بآلاف الأقدام، حتى جاءت لحظة الرعب والامتحان عندما دوى انفجار عنيف في مقصورة الطيارين، وكان ذلك نتيجة انفصال الزجاجة الأمامية وطيرانها في الهواء وتحديداً الزجاجة المقابلة للكابتن لانكستر، الذي تبع بدوره الزجاجة مباشرة وقذف خارج الطائرة بفعل قوة الضغط الهائل للهواء، إلا أنه لم يذهب وراء الزجاجة لأن رجله حشرت في مقود الطائرة، فبقي جسده يرتطم بجسم الطائرة من الخارج في درجة حرارة تحت الصفر بعشرات الدرجات، وبسرعة تجاوزت 500 كم بالساعة، لذا لن يكون له دور في الأحداث القادمة، التي وجد فيها مساعده أتشيسون، نفسه في قلب الحدث مع طائرة تنحدر بسرعة للأسفل، وكابتن شبه ميت، وصوت ريح يصم الآذان مع تجمد لأجهزة التحكم نتيجة الهواء البارد، وهنا عليه ترجمة كل ما تعلمه إلى أفعال من شأنها السيطرة على الموقف، ولا شك أنه في وضع نفسي لا يُحسد عليه، يؤثر على استحضاره للمعلومات، وربما جهل وعدم خبرة في التعامل مع الحدث، وفي خضمّ هذه الحالة اتصل ببرج المراقبة وردد هذه الكلمات: (لا أعرف أين نحن، لا أعرف ارتفاعنا، احتاج أي مساعدة ممكنة) فكانت النتيجة أن حصل على إرشاد كامل من المراقبة الجوية وهبط اضطرارياً في مطار ساوثهامبتون بسلام، دون أضرار بالركاب أو الطائرة، والعجيب أن الكابتن وصل على قيد الحياة وعاش بعد ذلك.
قرار مساعد الطيار، قد يبدو في الوهلة الأولى أن صاحبه ضعيف في مجال اختصاصه، ولا يجيد التعامل مع الأزمات، لكنه في الواقع فعل الصواب، واتخذ قراراً في منتهى الشجاعة، عندما قدر حجم الأزمة وأدرك وضعه، فاعترف بجهله الكامل، ليفتح بذلك الباب واسعاً أمام الخبراء على الأرض ليتولوا إدارة الأمر بالكامل بمساعدته، وبالفعل أرشدوه فوصل بالطائرة إلى الأرض بأمان، كان تصرفه شجاعاً لأنه لم يسمح لنفسه باتخاذ قرارات سريعة، ولم يستسلم لغروره، تصرفه كان ينم عن قوة الاعتراف بالجهل وهي قوة لا يمتلكها كثير من البشر، عبارة «لا أعرف» ليست إعلاناً للفشل، ونهاية للطريق، إنما هي بداية لطريق جديد، طريق المعرفة والنجاح، سلوك المساعد كان شجاعاً، لأن البشر يجدون صعوبة في قول «لا أعرف» وبالتالي يبقون على جهلهم في تلك المسألة وهو ما ينتهي بثقة زائفة، أما الاعتراف بالجهل فإنه يدفع للبحث والسؤال الذي ينتهي بالمعرفة. قوة الإنسان لا تكمن في امتلاكه لإجابة لكل شيء، إنما في شجاعته على طرح الأسئلة، وقديماً قال فقهاء وعلماء المسلمين: (نصف العلم، قولك: لا أدري).
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية