في صباح مدرسي مزدحم كنت أوازن بين حقائب الأبناء وكوب شاي أحمر وقرار بسيط أن أفتح حساباً جديداً وأدفع رسوم نشاط قبل أن يفوتنا الباص. لا طوابير ولا أوراق فقط أنا وهاتفي ودقيقتي الذهبية. أفتح التطبيق ويبدأ بلطف ويطلب التحقق من الهوية. جميل. ثم تنهال المطالب مثل قائمة مشتريات قبل العيد رقم سري لمرة واحدة وتصوير البطاقة من الأمام والخلف وسيلفي مع تحريك الرأس يميناً ويساراً وأرمش وابتسم ابتسامة معقولة. أنفذ كل شيء ثم تظهر الجملة التي تكسر الإيقاع تعذر التعرّف على الوجه. يا جماعة هذا وجهي الذي أستخدمه منذ سنوات وليس نسخة تجريبية.
النية طيبة.. التحقق الرقمي يحمي حساباتنا من محتالين يتقمصون دور البنك في رسائل ودودة. يظهر مصطلح يتكرر كثيراً في هذا العالم «KYC» وهو اختصار للتحقق من هوية العميل. ويلحقه عادة مصطلح واحد قادر على إرباك أي صباح «OTP» أي كلمة سر لمرة واحدة. الفكرة سليمة لكن الطريق إليها أحياناً يشبه نقطة تفتيش لا تنتهي. ما نحتاجه أمان يشبه الحارس الذكي الذي يحييك ويتركك تمر عندما يعرفك لا الحارس المتشدد الذي يوقفك عند كل زاوية بالسؤال نفسه.
وحين تعمل الأنظمة كما ينبغي تصبح التجربة أنيقة وهادئة. موظف افتراضي لبق يميّز التوقيع الذي مو راكب ويعتمد الصحيح بلا تعقيد. تخيل هوية رقمية موحّدة تغنيك عن إعادة المسرحية في كل بنك ومتجر وتطبيق. بطاقة رقمية تحفظ بياناتك الحساسة بأمان وتسمح بالموافقة على الخدمات بإيماءة خفيفة. وتخيل أن الخصوصية ليست شعاراً على ملصق بل إعدادات واضحة تشرح ما الذي سيُستخدم ولماذا وبأي حدود وأن بياناتك لن تتحول إلى مطاردة إعلانية لأنك بحثت مرة عن ماكينة عد النقود.
من التجربة اليومية خرجت بثلاث حيل صغيرة تساعد كثيراً.. إضاءة أمامية لا خلفية حتى لا تعاندك الكاميرا.. تثبيت الهاتف على سطح مستقر بدل اليد المرتجفة بين صراخ الأبناء وجرس الباب.. تحديث التطبيق والاتصال جيداً قبل البدء لأن أضعف لحظة للإنترنت تختار دوماً أن تكون لحظة السيلفي.. وهناك احتياط بديهي لا يضر أبداً عدم مشاركة رمزك المؤقت مع أحد حتى لو ادعى أنه المنقذ التقني.
حتى تبقى التكنولوجيا رحيمة نتذكر احتياجات كبار سنّنا ومن ليس لديهم صبر على زوايا تصوير وطلبات إضاءة مستحيلة. واجب على المصممين أن يضعوا زر مساعدة واضحاً ومحادثة بشرية عند التعثر وتعليمات قصيرة مفهومة وخطوات قليلة تراعي أن للحياة صوتاً خارج الشاشة. كما أن على الجهات أن تتفق على معايير موحدة كي تتحدث الأنظمة اللغة نفسها ويحصل المستخدم على تجربة واحدة لا امتحانات متعددة.
في النهاية أحلم بتقنية تعمل بهدوء ثم تبتعد.. هوية رقمية تحرسنا مثل ظل صيفي لا يقف بيننا وبين الشمس. عندما تصل الأنظمة إلى تلك اللحظة الإنسانية سننسى وجودها أصلاً وسنلحق الحافلة ونكمل يومنا وكأن كل شيء جرى تلقائياً دون أن يفسد علينا رشفة الشاي الأولى.
* خبير تقني