في سوق من أسواق المدينة العادية، خرجت وهي ترتدي أفضل ما في خزانة ملابسها، تضع نظارة شمس سوداء غطت نصف وجهها، مع أن الشمس قد رحلت وغادرت المحطة ولم يعد يرى أثرها، تصور بهاتفها نفسها وكل ما يظهر وراءها، فيظهر الناس في حركتهم الطبيعية، وهذا في الواقع ما نراه، لا ما تراه هي، لأنها تنظر للأمر بطريقة مختلفة، فهي في فيلم من كتابتها وإخراجها وتصويرها وهي بطلته، والناس من حولها مجرد ممثلين صامتين أو يتكلمون بأدوار ثانوية، إنها «متلازمة الشخصية الرئيسية.

في الواقع هي ليست متلازمة بالمعنى الطبي، بقدر ما هي اضطراب النرجسية الرقمية، التي تتغذى على مقاطع التيك توك، وريلز إنستغرام، خصوصاً تلك التي تصور بالبطيء مصحوبة بخلفية صوتية عبارة عن مؤثرات صوتية مثل الموسيقى الحزينة وأصوات الآهات البشرية المعدلة، والخلفية الصوتية هذه أهم من الفيديو نفسه، فلا مانع من أن يكون الفيديو لتحضير الشاي، لكن المهم أن يكون مصحوباً بالناي الحزين، ليظهر الشخص «صاحب الفيديو» كبطل وحيد للفيلم، ولا يوجد لحظة واحدة لا تستحق الموسيقى التصويرية حتى لو ظهر الشخص في مقطع يصور فيه نفسه وهو يشد رباط حذائه، فلابد أن يكون هناك خلفية صوتية ليظهر الأمر على أنه ربط وضبط صادر عن شخصية حازمة فالمعنى خلف المقطع أكبر من المقطع نفسه، أما الأمور الحياتية الروتينية الأخرى فيجب أن تصور ويجب أن تحكي قصة معاناة خلفها، فعلى سبيل المثال إذا ذهب إلى دوامه وفتحت الإشارة المرورية ضوءها الأخضر مرتين حتى تمكن من تجاوز التقاطع فيجب ألا يمر هذا الحدث مرور الكرام، فلا بد أن يصور ومن الضروري أن يظهر هذا الأمر على أنه ليس ازدحاماً مرورياً طبيعياً، إنما عائق أمام تحقيق الأحلام وتحدٍّ وعراقيل تواجه صاحبها، أما نحن فنظهر عادة في مقاطع هؤلاء شئنا أم أبينا، فنظهر ونحن نتسوق دون أن نعرف، ونظهر في إشارات المرور ونحن في سياراتنا دون أن نعرف، وبالتأكيد نتصرف على سجيتنا لأننا لا نعرف أننا نظهر في مقطع فيديو من الأساس، وفي كثير من الأحيان نظهر بطريقة لا تعجبنا، لأن من صورنا لا يهمه ذلك، بل يريد من الممثلين الثانويين أن يظهروا طبيعيين، كي يظهر مقطعه بطريقة عفوية مقنعة للمشاهد، وهذا في الواقع يذكرني بعبارة قرأتها على أحد مواقع بيع مقاطع الفيديو الوثائقية التي صورت قبل مائة سنة وأكثر، حيث تقول العبارة: «ظهور أحد أسلافك في مقاطعنا لا يمنحك الحق في الاعتراض وطلب حذف الفيديو أو المطالبة به، فمجرد وقوفه أمام كاميراتنا يعني ذلك موافقة صريحة منه بالظهور» وحدث أن شاهدت أول مقطع وكان لفيضان نهر دجلة في بغداد قبل 98 سنة فظهر في الصورة رجل حافي القدمين، يحمل على ظهره قطعاً من الأثاث البسيط، ينظر إلى الكاميرا باستغراب لأنه لا يعرف ما هي أساساً، فقلت في نفسي: أهذا الذي قدم للشركة موافقة صريحة بالظهور!

والآن وأنا أرى أبطال المقاطع يصورون في كل مكان وكل الناس، أتساءل وأقول: هل نحن موجودون لنكون خلفية لمشاهد هؤلاء، لماذا يجب علينا الظهور كممثلين ثانويين لآخرين وهم ينقلون تجاربهم الشخصية التي ربما تكون سخيفة جداً، هل سيأتي يوم ويشاهدنا أولادنا وأحفادنا في مقاطع لآخرين وقد كتبت عليها عبارة كتلك التي كتبتها الشركة صاحبة المقاطع الوثائقية؟!

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية