بدر علي قمبر

مازالت مدرسة غزة الشامخة تُعلّمنا الكثير في محطات الحياة ومسير هذه الدنيا، ومخطئ من اعتقد أن غزة مجرّد قضية من القضايا التي مرّت علينا من قبل، وستمرّ كما مضى غيرها. فغزة جزء مُبارك من أرض فلسطين التي بارك الله في كل أجزائها، وهي ثغر من ثغور المسلمين، وقد بقيت كذلك زماناً طويلاً، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (بإسنادٍ جيد): «وإن أفضل رباطكم عسقلان»، المحتلّة اليوم، وغزة كانت تابعة لعسقلان.

وما إن تستريح غزة من وطأة الحرب الطاحنة التي أكلت الأخضر واليابس، واستُشهد خلالها ما يُقارب سبعين ألف شهيد، حتى تجد نفسها في مواجهة جديدة. فغزة اليوم لم تنتهِ معركتها، وإن توقفت الحرب مؤقتاً، فهي معركة أزلية ضد المحتل، ومعركة صمود وثبات وتغيير أمام الأوضاع المزرية التي تعيشها، وقد تحتاج إلى فترة طويلة للتعافي والعودة إلى حياتها الطبيعية.

ومن محطة غزة خرجت لنا العديد من الشخصيات التي ضربت أروع الأمثلة في قيم الحياة والصمود، ولعلّ بعضها أصبح قصة مؤثرة دوّت أصداؤها في العالم أجمع. ومن بين السطور برزت شخصية صالح الجعفراوي، الصحفي الصامد الصبور، الذي دخل قلوب المسلمين جميعاً، وبرزت شخصيته الشجاعة أمام العالم أجمع، حتى أقامت له بعض الدول غير المسلمة وقفات تأبين.

وعلى الرغم من صِغر سنّه، إلا أنه كسب القلوب، وكان حاضراً كل يوم طيلة السنتين الماضيتين ينقل تفاصيل الحرب الضروس على غزة، ويُوثّق حجم المعاناة والألم الذي تكبّده أهلها، ويروي أدق التفاصيل من مواقع القتل والدمار، حتى إنه نجا من الموت مرات عديدة.

سبحان الله... عندما وصلنا نبأ استشهاد صالح، لم يكن خبراً عادياً، بل شعرنا وكأننا نفقد قريباً نعيش معه يومياً. كان رحيله صعباً للغاية، رغم يقيننا بأن كل أهل غزة، بل فلسطين، قد هيّؤوا أنفسهم لتلك اللحظات، وجهّزوا وصاياهم، وهم يتوقعون الشهادة في أي لحظة، في ظل الهجمة الشرسة المدمّرة التي لم تهدأ منذ عامين، بل منذ عقود.

دروس كثيرة حطّت رحالها في قلوبنا ووجداننا، تعلّمناها من غزة ومن صالح الجعفراوي خاصة، من أولئك الذين نذروا حياتهم لله تعالى وحده. لابد أن نجدد ذكرها وأثرها بين الحين والآخر، حتى نعيش لله تعالى وحده، ونُعدّ أنفسنا للحظات الرحيل عن هذه الحياة، بل ونُهيّئ قلوبنا لحياة الآخرة.

وأول هذه الدروس تعميق الإيمان في النفوس وتجديده والارتقاء به، فبدون قوّة الإيمان لا نستطيع مجابهة أهواء الدنيا وغوايات الشيطان الرجيم. فالإيمان هو الذي منح أهل غزة القوة، واختارهم المولى الكريم ليكونوا في معترك التمحيص الحقيقي، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. والإيمان هو الذي يجعل المرء يصمد أمام الفتن الكثيرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلبٍ أُشربها، نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نُكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود».

أما الثبات على المبادئ والقيم، فهي رسالة أخرى خطّها لنا صالح، فقد عاش من أجل مبادئ الإسلام، مؤمناً بوعد الله تعالى ورسالة الإنسان، ولم يُساوم يوماً على قناعاته، وظل ثابتاً على الحق حتى في أحلك الظروف. كانت حياته كلها لله تعالى؛ حفظ القرآن، وحرص على تعليم الأذكار للناس، وعمل بإخلاص وجدّ في أخطر المواقف. إنها رسالة تُعلّمنا إخلاص النية في العمل، وأن تكون خالصة لله تعالى وحده، فترى أثرها الجميل في المجتمع بتوفيق من الله تعالى وحده. وهكذا ترك صالح أثره الإيجابي بحكايته التي تحدث عنها الجميع، لتصبح منهاجًا يُدرّس للأجيال، وبصمة مضيئة في كل الميادين.

لقد ترك رسالة بليغة مفادها: لزوم العمل الصالح حتى الممات، وأن يكون الإنسان معطاءً حقيقياً في هذه الحياة، لا يقف على الهامش أبداً. علّمنا الصبر والصمود في الشدائد، ورفض مغادرة غزة أكثر من مرة، بل رفض مرافقة والدته للعلاج خارجها، حتى يواصل رسالته رغم المخاطر المحدقة التي واجهها في ميدان القتال. إنها رسالة قدّمها للعالم كله، بثباته وحرصه وحبّه لأرضه ووطنه، وخوفه من أن يُحرم لذّة الأجر إن غادرها!

إن الوفاء للرسالة، والصبر، والاحتساب، والصدق، وقوّة الإرادة، كلها قيمٌ تخلّق بها صالح، وتخلّق بها أهل غزة الكرام، فآمنوا بها وعاشوا لأجلها، حتى أعطاهم الله ما تمنّوا، وأضحى من بقي منهم متمسكًا بمبادئ العزّة، يكافح ليشارك في إعادة إعمار غزة من جديد، لتكون منارة للخير.

ومضة أملبعض قصص الحياة تأتي على هيئة رسائل مؤثرة، وبخاصة قصص أهل غزة، فهي محطات لتجديد الإيمان والحياة، وفرصة لإعادة النظر في ذواتنا، وتقييم حجم عطائنا في خدمة الإسلام والإنسانية. وصالح هو أحد تجليات الإيمان الحقيقي بالله تعالى، الذي يجب أن نتشبّع به ليل نهار، وأن يكون دافعاً للبناء والعمل الصالح. اللهم تقبّل صالح وكل شهداء فلسطين عندك في الصالحين، ووفّقنا لنكون سفراء للخير في أرضك الواسعة، نلقاك وقد رضيت عنا.