كان السكر بالنسبة للإنسان منذ زمن بعيد كنزاً نادراً ومصدراً سريعاً للطاقة، يمده بالقوة وقت الجوع. لكن عندما أنتجناه بكميات ضخمة، تحوّل من نعمة إلى نقمة، وأضحى سبباً في أمراض كثيرة أبرزها السمنة والسكر والقلب. واليوم يحدث الشيء نفسه مع المعلومة. ففضولنا الفطري لها كان يوماً أداة للبقاء أما الآن فقد تحول هذا الفضول إلى وباء من نوع جديد يعرف بـ«وباء السمنة العقلية». ليحول أعظم ما ميّزة للإنسان من فضول للمعرفة إلى عبء ينهش وعيه. فمع السمنة العقلية صار العقل متخماً بما لا يغذيه، بل بما ينهكه وتحوّل الفضول الفطري للمعلومة للعنة رقمية ضارة.

لقد أثبتت دراسة أُجريت عام 2019 في جامعة (Berkeley) والتي تُعد من أعرق الجامعات الأمريكية وأكثرها تأثيراً عالمياً، أن المعلومات تُحفّز في المخ دوائر الدوبامين نفسها التي تنشطها المكافآت الحسية كالطعام، وهذا يعني ببساطة أن دماغنا يتعامل مع المعلومة كجائزة في حد ذاتها، فنتلذذ بالمعلومة كما نتلذذ بقطعة حلوى. بغضّ النظر عن أهميتها وقدرتها على تغيير رؤيتنا للعالم. ولهذا نفتح الهاتف بلا سبب، ننتقل من منشور إلى آخر، حتى يغمرنا شعور وهمي بالامتلاء كمن يلتهم وجبات سريعة بلا توقف، حيث تغوي «المعلومة السريعة» العقل ثم تتركه خاوياً.

كانت المعلومة في الماضي نادرة، تماماً مثل السكر. لكن مع صعود الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، انفجر السيل حيث أصبح الإنترنت مليئاً بمحتوى سريع، سطحي، وسهل الهضم وشائعات وعناوين مثيرة ونقاشات بلا فائدة. تماماً مثل «البرجر والبطاطس» بالنسبة للجسد، حيث أصبح لدينا «المعلومة السريعة» التي تستهدف العقل. لكن يا ترى ما هي النتيجة؟ ملايين البشر أصبحوا مدمني هذه «الوجبات العقلية السريعة»، يتصفحونها بلا نهاية، فمن تويتر إلى إنستغرام، ومن يوتيوب إلى إشعارات الأخبار وهلمّ جرّاً، حيث تطورت الأسواق والإعلام على قاعدة بسيطة: ما دام المستهلك ينجذب إلى ما يثيره، فلننتج المزيد مما يثير لا مما ينفع. وهكذا ازدهرت صناعة «الوجبات المعلوماتية السريعة»: عناوين صاخبة، صور مبهرة بلا معنى فقط تلهب العاطفة وتستنزف الانتباه. والنتيجة أن الوعي الجماعي أصيب بالتخمة: عقول ممتلئة، لكنها فارغة من القيمة. فالإفراط في المعلومات الرديئة ساهم في تصلّب الفكر مثل تصلب الشرايين. فتتراكم التوافه حتى تسدّ مجرى الانتباه، يصبح العقل عاجزاً عن التمييز بين ما هو جوهري وزائف وتنهار قدرتنا على التركيز والتفكير العميق.

لكن دعنا نتساءل ما هو الحل؟ أعتقد أن الحل بسيط، فكما نضع أنظمة غذائية لأجسادنا، نحتاج إلى نظام غذائي للمخ. وأوله الوعي بما تستهلكه والتفريق بين ما يفيد وما لا يفيد في الدقائق والأيام والسنوات القادمة، أيضاً علينا التقليل من «الوجبات السريعة». الناتج من المطاعم المفتوحة للذهن: «تغريدات» كالأقراص المقليّة والعناوين الصادمة التي تشبه التوابل الحارة تلهب ألسنتنا ولا تشبع المعدة. أما الكتب والأفكار العميقة فهي كالطبخ البطيء؛ تحتاج صبراً ووقتاً ونَفَساً طويلاً. فنقلل من التصفح العشوائي، والبحث عن مصادر ذات قيمة. وأهم ما يمكن فعله هو الإنتاج بدلاً من الاستهلاك. للأفكار والمعلومات، فالكتابة والإبداع يجبرانك على تصفية المعلومات، واختيار ما يستحق البقاء في ذهنك. فقد لا تتذكر التغريدة المضحكة أو الخبر المثير. لكننا بالتأكيد سنشعر بالفراغ الذي تركته سنوات من التهام «اللاشيء».

إن علينا أن نُعيد تشكيل علاقتنا بالمعرفة ونمارس الصوم المعلوماتي، نغلق الشاشات لنسمع صوت أفكارنا. فالكتابة والتأمل والبحث تفرض علينا انتقاء الغذاء الفكري بدقة. فنحن في نهاية العمر، لن نتذكر صورة عابرة على إنستغرام، ولا خبراً مثيراً قرأناه على عجل. ما سيبقى هو حصيلة الأفكار التي غذّت أرواحنا، والكتب التي غيّرت نظرتنا، والتجارب التي صنعت وعينا. علينا أن نكون واعين وإلا فالمأساة أن نكتشف بعد فوات الأوان أننا لم نكن نستهلك المعلومات، بل كانت هي التي تستهلكنا.

* دكتوراه في الإعلام الرقمي