لقد سبقت الشريعة الإسلامية- وبحق- القوانين الوضعية في وضع الأسس اللازمة للحفاظ على مال الجماعة، وهو ما يعادل المال العام في الوقت الحاضر، سواءً أكان ذلك من خلال اختيار العاملين (الموظفين) على مال الجماعة، أو في توقيع الجزاءات على من يثبت عدم صلاحيته لهذه الوظيفة أي في توقيع العقوبة.
ويعتبر المال العام من كيان الدولة الإسلامية، لا يجوز تملكه ملكية خاصة لتعلق مصالح الناس به كالجسور والقلاع، والحصون، والطرق وجميع المنشآت والمنافع العامة، والتي تعود المصلحة في وجودها إلى جميع أفراد الدولة، هذا وفي الوقت نفسه لم تُجرم الشريعة الإسلامية الملكية الخاصة فقد نصت المادة العاشرة من كتاب مرشد الحيران على أن» القناطر والطرق النافذة والشوارع العامة التي ليست بملك لمعين، لا يجوز لأحد أن يختص بها ولا أن يمنع غيره من الانتفاع بها، بل تبقى لمنفعة عامة».
ولقد جاءت الآيات القرآنية صريحة من حث الكافة على أهمية المال وفائدته للفرد والجماعة، وإن كانت الألفاظ القرآنية التي جاءت في هذه النصوص عامة تشمل المال العام والخاص على حدٍ سواء، كذلك كانت الأحاديث الشريفة في السنة النبوية مؤكدة وموضحة بما جاءت به النصوص القرآنية في هذا الشأن.
فالمال بالنصوص القرآنية الصريحة هو مال الله، ويشمل كذلك المال الخاص حيث رأى جانب من الفقهاء أن نسبة المال للناس، في بعض الآيات هي نسبية مجازية، وذلك في قوله تعالى: «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَٱلْمَحْرُومِ»، «الذاريات: 9»، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ»، «التوبة: 111»، ومن الآيات الدالة على أن المال هو مال الله سبحانه وتعالى سواء أكان عاماً أم خاصاً قوله تعالى: «وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيم»، «النور: 33»، ومن الآيات الدالة على أن الله جعل من تملك هذا المال خليفه فيه قوله تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ»، «الحديد: 7».
وقد أمرنا الله عز وجل بحماية المال العام الذي جعلنا مستخلفين فيه، وحرم الاعتداء عليه؛ لأنه قوام الحياة، ومن موجبات عبادة الله، وإقامة فرائضه.
ومن المظاهر البارزة في العصر الحديث الاعتداء على المال العام من قبل بعض الموظفين سواء أكان ملكا للدولة بصفتها المعنوية، أو لمجموعة من الناس؛ مثال على ذلك مال الجمعيات، والهيئات، والمراكز الأهلية، والنقابات وما في حكم ذلك.
ومن صور الاعتداء على المال العام السرقة، والاختلاس، وخيانة الأمانة، وعدم إتقان العمل وإضاعة الوقت والتربح من الوظيفة، واستغلال المال العام لأغراض دنيوية (سياسية، حزبية، فئوية..) وغير ذلك.
ومن الأسباب التي تؤدي إلى الاعتداء على المال العام؛ ضعف العقيدة، والجهل بالحلال والحرام، وعدم تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وتقصير ولاة الأمر في حمل الأمانة التي استرعاهم الله عليها، ويترتب على الاعتداء على المال العام جرائم خطيرة كالفساد الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي الذي أصاب الناس والمجتمع؛ بل الأمة الإسلامية بأسرها، وأصبحت الحياة بلا أمن ولا استقرار؛ ولقد استشعرت بهذا الخطر الداهم (اعتداء بعض الموظفين على المال العام).
وما أحوجنا نحن المسلمين اليوم إلى ممارسة الرقابة على المال العام، حتى ترجع الأمور إلى نصابها، ورد الاعتداءات الحاصلة على الأموال العامة، بحيث تبدأ من مراقبة الإنسان لنفسه أولاً، ثم مراقبة الحاكم لعماله، ثم مراقبة الشعب على الجميع، إلا أننا لا نجد هذه الأنواع الرقابية مطبقة في الدول الإسلامية؛ مما زاد في استشراء الفساد والاعتداء على الأموال العامة، وفي المقابل نجد دول الكفر تطبق بعض هذه الوسائل على الرؤساء والمسؤولين، فعندما يكتشفون مخالفاً، فإن وسائل الإعلام لا ترحم أحداً، والملاحقات القضائية حتى يسترد منه ما أخذ من المال العام.