كثير منا تحيط معصمه ساعة ذكية تعرف عدد دقات قلبه باستمرار، وفي لحظات تقدم له تقريراً طبياً عن حالة نومه، بينما هو لا يتذكر آخر جملة نطقها، يحمل في يده هاتف «ذكياً» أيضاً، يؤدي مهامّ متعددة في آن واحد، بينما هو يحتار في اختيار نوع طعام غدائه، لديه اشتراك شهري مدفوع في تشات جي بي تي، يطلب منه كتابة رسالة مهمة لأحد عملائه، ينسخها ويذهب إلى واتس آب ليلصقها في محادثة مع صديق، ليعقبها بعد ثوانٍ بالرسالة المشهورة: (عذراً أرسلت بالخطأ).
هذا ليس مشهداً تخيليّاً، بقدر ما هو واقع إنساني نعيشه في زمن الذكاء الاصطناعي، الزمن الذي تتسارع فيه خطى الذكاء الاصطناعي نحو الأعلى وتحديداً في إجراء المحادثات في الوقت الذي تتسارع فيه خطانا هبوطاً في هذا الجانب، فبدأ الذكاء الاصطناعي يكتب الشعر، والنوتات الموسيقية ويعزفها أيضاً، بل ويطلب منا أن نغني ما كتب ولحن، ولو كانت أصوتنا متحشرجة لا تصلح إلا لاستخدامها في مركز تدريب دورات الصاعقة، لأنه كفيل بتقديمها عذبة تطرب الأسماع، يشخّص تشات جي بي تي وغيره من الأدوات أعطال سياراتنا بمجرد وصفها له، بينما، نلجأ نحن لإطفاء الراوتر وإعادة تشغيله عندما تحصل مشكلة في الإنترنت، -لأن تشات جي بي تي لم يعد متاحاً ولو كان كذلك لسألناه أيضاً- بتنا نلجأ لتشات جي بي تي لإصلاح كل مشاكلنا، بما فيها مشاكلنا في العمل والمشاكل الأسرية، فيقدم لنا الحلول ونتبعها دون التفكير فيها، حتى بات علينا إعادة النظر في الأمثال التي ورثناها، ونحدثها قليلاً، فالمثل القائل (العقل زينة) يحتاج إلى تحديث ولعله يصبح (الذكاء الاصطناعي زينة)، في زمن تتعلّم فيه منصات الذكاء الاصطناعي من أخطائها، وتظهر التواضع لنا عند الخطأ، وتعد بعدم تكراره، نغضب نحن ممن يواجهنا بأخطائنا، ونصرّ على تكرارها، بينما نشغل أنفسنا بتدريب روبوتات الذكاء الاصطناعي على عدم تكرار الخطأ ونحرص على تعريفها بأخطائها كي لا تكررها وتقدّم لنا منتجاً خالياً من الأخطاء.
الفارق بيننا وبين هذه الآلات، أنها عندما تكتب، تركز في مسألة الكتابة، فهي لا تكتب وهي تشرب القهوة وتقرمش المكسرات، وإذا كُلِّف روبوت بالرد، لا يرسل رسائل «بالخطأ» كما نفعل، لأنه لا يرسل وهو منفعل، فهي تتفاعل مع شيء واحد تتعامل معه، بينما نتفاعل نحن مع كل شيء، لدرجة أننا نصل إلى مرحلة عدم التفاعل مع عقولنا، نواجه الشاشات أكثر من مواجهتنا أنفسنا وعقولنا.
يجد بعض الناس في الذكاء الاصطناعي مشكلة، والحق أن المشكلة ليست فيه، إنما هي في تركيزنا، فالآلة أصبحت تفكر، بينما توقف كثير منا عن ذلك.
* عميد كلية القانون - الجامعة الخليجية