في إحدى محاوراته الشهيرة، أقرَّ سقراط بأنّه «لا يعرف شيئاً سوى أنّه لا يعرف شيئاً»، مسلّطاً الضوء على حقيقة أنّ المعرفة الحقّة تبدأ بإدراك حدود جهل الإنسان. ومنذ أفلاطون الذي حذّر في أسطورة الكهف من الاكتفاء بظلال الحقيقة، مروراً بالمفكر الفرنسي ميشيل فوكو وتحليله اقتران المعرفة بالسلطة، وصولاً إلى الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر ونقده لاستحواذ التقنية على الوعي؛ ظلّ السؤال قائماً: ما ماهية المعرفة وكيف تُدار؟ اليوم يعود السؤال بإلحاح في ظلّ تحوّل جذري تمليه أدوات الذكاء الاصطناعي، تحوّلٌ لا يقتصر على ابتكار تقني عابر؛ بل يمسّ صميم طريقة تشكيل المعرفة وانتقالها بين البشر.

لقد غيّرت أدوات الذكاء الاصطناعي الحديثة، مثل ChatGPT وغيرها، طبيعة العلاقة بين الإنسان والمعلومة. فبعد أن كانت المعرفة تتطلب جهداً فكرياً وبحثاً شاقاً لاكتشاف المعنى؛ تحوّلت مع هذه الأدوات إلى استهلاك فوري ومعلّب للمعرفة. لم يعد المرء بحاجة إلى رحلات طويلة بين صفحات الكتب أو التفكير العميق لاستنباط الحكمة؛ بل يكفيه أن يطرح سؤاله على خوارزمية ذكية ليحصل على إجابة جاهزة. هذا التحول أنتج شكلاً من الاعتماد المعرفي الممتد؛ أي أنّ عمليات التذكّر والتحليل لم تعد حبيسة الأدمغة وحدها؛ بل امتدّت إلى مستودعات رقمية وخوارزميات تُعين العقول وتؤثّر في طرائق اشتغالها. ومع أنّ هذا الاتساع يَعِد برفع الكفاءة، فإنّه يستدعي حوكمةً دقيقةً حتى لا يتحوّل الامتداد إلى استبدال يُضعف ملكات الفهم والتثبّت.

تُظهر تجربة بحثية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) أن الكتابة بمساندة نماذج لغوية تقلّل من الارتباطات الدماغية في شبكات الانتباه والإبداع، وأن من استخدموا تلك الأدوات تذكّروا أقل مما كتبوا وفهموه. وفي المسار الاجتماعي نفسه، يسجّل تقرير من جامعة أكسفورد أن المستخدمين -رغم زيادة سرعتهم- يميلون إلى تفكيرٍ مُركَّب صناعياً؛ طلاقة في المعالجة يقابلها ضمور في العمق والاستقلالية. وتكشف آخر مؤشرات برنامج التقييم الدولي للطلبة (PISA) الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، تراجعاً واسعاً في القراءة والرياضيات في دولٍ متقدمة، ضمن سياقٍ رقميّ يُغري بالاختصار والسطحية.

وتتعاظم المفارقة حين تتشابه الأجوبة الفورية وتفتقر إلى اللمسة الإنسانية وروح الابتكار. إذ كلّما زادت سهولة الوصول إلى المعلومة تراجعت قدرة الوعي على ترسيخها وتأويلها. وهنا تفيد التقارير الاستشارية العالمية بأنّ القيمة لا تتأتى من سرعة الإنتاج؛ بل من تحويل السرعة إلى معنى. فـ«ماكينزي» تشير في تقاريرها عن حالة الذكاء الاصطناعي (2023–2025) إلى أنّ العائد يتحقق حين يُعاد توجيه الوقت المُحرَّر نحو أعمالٍ أعلى قيمة. و«ديلويت» تؤكد ضرورة مزاوجة الحكم البشري مع قدرات الآلة ضمن أطر واضحة للثقة والمساءلة. فيما تنبّه «غارتنر» في دورات التبنّي إلى اتساع فجوات الحوكمة والمخاطر -- كالتحيّز والأمان- ما لم تُعالج بمنهجيات صارمة.

لا نستحضر هذه الشواهد لإدانة التقنية؛ بل لنذكر بأنّ الدماغ يحتاج إلى «احتكاك» ليتعلّم، وأنّ إدارة المعرفة الرشيدة ليست تراكم وثائق ولا تسريع إنتاج معرفي؛ بل أخلاقٌ في التفكير ومنهجٌ في وضع الأسئلة قبل استهلاك الأجوبة. والمطلوب عملياً أن نُبقي الفارق جلياً بين الاستعانة والاستبدال؛ أن نسخّر الأداة لتوسيع أفق الدلالة، وأن نجعل الاتساق الإحصائي جسراً إلى حكمة بشرية يقظة. عند هذا الحد تلتقي حكمة الفلاسفة مع درس الإدارة المعاصرة؛ فلا تُدان السرعة لأنها سرعة، بل حين تُختزل بها الحقيقة ويُستغنى عن الفهم. وإذا كان التاريخ قد علّمنا أنّ الكتابة والطباعة والإنترنت وسّعت أفق الفكر حين استخدمناها لإعادة تنظيم ذاكرتنا وحجّتنا، فإنّ واجب اللحظة أن نُحسن توجيه الذكاء الاصطناعي ليكون مُضاعِفاً للفضول وعمق المعنى، لا بديلاً عنهما؛ فتتقدّم إدارة المعرفة بسرعةٍ في الوسائط وعمقٍ في المقاصد وذاكرةٍ تُدرك المعنى قبل النص.