في ما مضى، كانت المعرفة مشروعاً شاقاً يتطلب جهداً وصبراً. كنا نقرأ، نحلل، نخطئ فنصوّب، نُشكك ثم نوقن. أما اليوم، فقد تغير كل شيء.
يكفي أن تكتب سؤالًا على محرك بحث، أو في تطبيق ذكاء اصطناعي لتحصل على إجابة جاهزة، أحياناً أدقّ وأسرع مما تتوقع. إنها راحة معرفية مغرية، لكنها تخفي خلف سطورها سؤالاً خطيراً، إذ هل لا نزال نفكر، أم أننا بدأنا نُفوّض عقولنا للآلة؟!
لم يعد الذكاء الاصطناعي حكراً على المختبرات التقنية، بل أصبح عنصراً يومياً في حياة الإنسان. من كتابة البحوث والتقارير، إلى صياغة الرسائل والخُطب، وصولاً إلى اتخاذ قرارات إدارية. هذا الحضور الكثيف والمريح للتكنولوجيا قد يخدعنا فنظن أننا نوجّهها، بينما هي في الحقيقة من بدأت تُوجّهنا.
الخطر الحقيقي لا يكمن في أن تُصبح الآلة أذكى من الإنسان، بل أن يتوقف الإنسان عن استخدام ذكائه. حين نعتاد تلقّي الإجابات الجاهزة، ونُسلّم بقول ”الآلة أدرى“، فإننا نخسر تدريجياً واحدة من أثمن ملكاتنا، وأعني هنا القدرة على التفكير النقدي، التفكير الذي يُنتج الفكرة، ويُشكّك فيها، ويعيد صياغتها من جديد.
لقد تحوّل السؤال من: ”ما رأيي أنا“؟! إلى: ”ما الذي تقوله الخوارزمية“؟!. وهذا التحوّل، رغم بساطته الظاهرية، يحمل في طيّاته خطراً على استقلالية الإنسان المعرفية.
صحيح أن الذكاء الاصطناعي قد فتح آفاقاً لا يمكن إنكارها. لقد سرّع من وتيرة البحث، وسهّل الوصول إلى المعلومات، بل وأبدع في إنتاج محتوى فني وأدبي مذهل. لكنه، كأي قوة عظيمة، يحتاج إلى وعي مقابل يوجّهه، لا إلى عقلٍ مستسلم ينقاد خلفه دون مساءلة.
الإشكالية ليست في التقنية، بل في تعلّقنا بها حدّ الإدمان، وتراخينا في تشغيل عقولنا. فكما يضعف الجسد من قلة الحركة، يذبل العقل حين يكتفي بالاستهلاك دون إنتاج. والأخطر، حين نصبح مجرد ”مستخدمين“ لأفكار لا نعرف كيف وُلدت، ولا لماذا يجب أن نقبل بها.
نعم، نحن بحاجة إلى جيل يُجيد استخدام التكنولوجيا، لكن دون أن يسمح لها بمصادرة استقلاله العقلي. جيل يجرؤ أن يقول: «دعني أفكر أولًا»، قبل أن ينساق خلف النتائج المقترحة أو المحتوى المُهيأ مسبقاً.
ما نخشاه ليس ذكاء الآلة، بل غباء الاعتماد المطلق عليها.