صباحاً، وأنا أرتشف كوب الشاي الساخن، وأتصفح الأخبار التي تملأ وسائل التواصل، استوقفني خبر ليس جديداً تماماً، لكنه جعلني أنسى نفسي وألسع لساني من حرارة الشاي. العنوان كان صادماً: «تأكيد اختراق وتسريب بيانات حسابات Google في سبتمبر».
في البداية ظننت أنه من تلك المنشورات التي تبالغ كعادتها، لكن حين فتحت التفاصيل، أدركت أن القصة أكبر مما تصوّرت.
ففي أواخر سبتمبر 2025، أعلنت شركة Google عن تسريب ضخم طال بيانات 2.5 مليار حساب في Gmail حول العالم، بسبب خلل أمني في نظام تابع لشركة خارجية تُدعى (Salesforce) تستخدمها Google لإدارة علاقات عملائها. وبعد أسابيع قليلة، في أكتوبر، ظهر تسريب جديد لأكثر من 183 مليون حساب، تبيّن أن بعضها يحتوي على كلمات مرور عُرضت للبيع في المنتديات المظلمة.
بمعنى آخر، إذا كان لديك حساب في Google، فاحتمال أن بياناتك كانت ضمن القائمة ليس ضئيلاً أبداً. انتشر الخبر كالنار في الهشيم، وتباينت ردود الأفعال. خرجت Google لتؤكد أن «الخوادم آمنة، ولم يحدث اختراق مباشر، وإنما تسربت البيانات من طرف ثالث». تفسير يشبه من يقول: «لم أكسر الكوب، لكنه انكسر وأنا أحمله»!
منذ ذلك اليوم، كل إشعار يصلني من Google يثير فيّ قلقاً صغيراً، خصوصاً عندما تظهر الرسالة الشهيرة: «تم تسجيل الدخول من جهاز غير معروف». في لحظة، تبدأ الأسئلة تدور في رأسي: من دخل؟ من أين؟ ولماذا الآن؟ وبعدها بثوانٍ فقط، تصل رسالة أخرى: «تم تأمين حسابك». كأن Google نفسها تخترق وتُصلح في الوقت ذاته!
الناس تعاملوا مع الموقف بطرق مختلفة؛ فهناك من غيّر كلمة المرور سبع مرات في اليوم، وهناك من قال بثقة: «لن يهتم أحد باختراقي!»، وهناك من حاول أن يكون ذكياً فوضع كلمة مرور طويلة مليئة بالرموز والأرقام والأحرف... ثم نسيها بعد دقائق معدودة.
بعد الحادثة، نصحت Google المستخدمين بالانتقال إلى ما يُعرف بـ«مفاتيح المرور» (Passkeys) بدلاً من كلمات السر التقليدية. نصيحة جميلة من حيث المبدأ، لكن الواقع مختلف؛ فكيف سنحفظ مفاتيح رقمية، ونحن ننسى أحياناً أين وضعنا مفاتيح السيارة الحقيقية؟
القضية في جوهرها ليست مجرد اختراق، بل مشهداً متكرراً من حياتنا الرقمية. الشركة تقول إن الحماية مسؤولية مشتركة، والمستخدمون يلقون اللوم عليها، بينما يحتفل القراصنة في الزوايا المظلمة من الإنترنت.
ومع أن Google نفت حدوث اختراق مباشر، إلا أن التحقيقات كشفت أن معظم التسريبات جاءت من أجهزة المستخدمين أنفسهم، بعد أن أصيبت ببرمجيات خبيثة تجمع كلمات المرور القديمة وتعرضها للبيع دون علم أصحابها.
ورغم كل ذلك، تصرفت Google بسرعة؛ أرسلت تحذيرات رسمية، ونصحت بتغيير كلمات المرور، وتفعيل التحقق بخطوتين، وأطلقت حملة واسعة للتوعية بالأمان الرقمي. ومع ذلك، يبقى المشهد ساخراً بعض الشيء: ملايين الأشخاص حول العالم عاشوا ذعراً رقمياً لأنهم لم يغيّروا كلمة السر منذ عام 2012!
كلمة السر اليوم أصبحت مثل المفتاح القديم الذي لا يزال في جيبك، رغم أنك بدّلت باب المنزل. نستخدم نفس الكلمة في البريد والهواتف والعمل، ثم نتساءل لماذا أصبحت حياتنا مكشوفة بهذا الشكل.
لكن وسط هذا الضجيج التقني، يظل الجانب الإنساني واضحاً. فالتكنولوجيا ليست شريرة، لكنها تعكس عاداتنا نحن. نحن من قدّمنا لها أسرارنا وصورنا ومشاعرنا طوعاً، ثم غضبنا حين خانتنا. وكما يقول المثل: «العتب على من سلّم المفتاح».
ربما الدرس الحقيقي ليس في الخوف من الاختراق، بل في الوعي والاتزان. بدل أن نعيش في حالة فزع مع كل إشعار يقول: «تم تسجيل الدخول من مكان غير معروف»، لنتعلم أن نعيش علاقة أكثر نضجاً مع التقنية.وفي النهاية، عندما تطلب مني Google أن «أحدّث كلمة السر»، أبتسم وأقول في نفسي: هذه المرة سأختار كلمة سر قوية.. لن يعرفها أحد.. ولا حتى أنا.
* خبير تقني