شهدنا اليوم سقوطاً مدوياً لمؤسسة إعلامية عريقة كانت تُعد يوماً ما رمزاً للحياد والاحتراف المهني، وأعني هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي».

هذه المرة، لم يكن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بحاجة إلى توجيه انتقاداته المعتادة، فالمشهد نفسه قدّم للعالم دليلاً فاضحاً على ما وصفه مراراً بتحيّز الإعلام الغربي وانحرافه عن المهنية.

في تقرير نشرته صحيفة «التليجراف»، تم الكشف عن قيام «بي بي سي» بالتلاعب في عرض مقطع من خطاب لترامب، جرى فيه اقتطاع العبارات من سياقها، مما أوحى زوراً بأنه يدعو إلى العنف.

هذا التصرف ليس مجرد خطأ في الإخراج أو زلة تحريرية؛ بل إخلال جسيم بأبسط قواعد المصداقية والنزاهة الإعلامية. وقد أعقب الفضيحة استقالة كل من المدير العام للمؤسسة ومديرة قسم الأخبار، الأمر الذي يثير تساؤلات أعمق، إذ كم من الحقائق تم تحريفها قبل أن تنكشف واحدة منها للعلن؟!

المسألة ليست حادثة معزولة، بل تأتي في إطار متكرر من التحيز الإعلامي الممنهج. لقد سبق وأن رُصدت تجاوزات مشابهة، أبرزها خلال تغطية حرب العراق، حيث ساهمت «بي بي سي» وآخرون في الترويج لروايات زائفة بشأن وجود أسلحة دمار شامل، وهو ما ساهم في تبرير غزو غير مشروع. كما أن تغطيتها لأحداث ما سُمي بالربيع العربي اتّسمت بالانتقائية، حيث قدّمت سرديات منحازة، عكست ازدواجية واضحة في التعامل مع قضايا المنطقة.

خطورة هذا النموذج الإعلامي تكمن في أنه لا يكتفي بتقديم صورة غير مكتملة، بل يختار عمداً ما يظهره وما يخفيه، مما يؤدي إلى تشكيل وعي زائف لدى الجمهور حول قضايا حيوية.

وهناك نقطة أخطر، إذ عندما ترفع مؤسسة بحجم «بي بي سي» شعار الموضوعية والحياد، بينما تمارس في الخفاء أجندات توجيهية، فنحن أمام أزمة أخلاقية عالمية تتجاوز حدود الإعلام، وتمسّ جوهر الثقة بين الناس ومصادر المعلومات.

الإعلام، حين يُسخّر لخدمة مصالح سياسية، يتحوّل إلى أداة نفوذ أشد خطراً من السلاح، إذ هنا يشوّه الوعي ويسيطر على الإدراك الجماهيري. وما حصل اليوم ليس مجرّد خلل في التقدير التحريري، بل انهيار رمزي لمنظومة كانت تُقدَّم للعالم كنموذج للموضوعية.

أصبح واضحاً أن ما نراه ليس إعلاماً يبحث عن الحقيقة، بل آلية تعمل على إعادة إنتاجها وتشكيلها بما يخدم رواية معينة. الوجه الحقيقي لإعلامٍ طالما ادّعى الحياد انكشف، والعالم بات يدرك أن خلف الواجهة المزخرفة تختبئ أجندات، تُعاد من خلالها صياغة صورة الشعوب والدول وفق ما يناسب المصالح العليا لبعض القوى.

ما جرى مع الـ«بي بي سي» يكشف زيف فكرة «الإعلام المحايد والنزيه» التي سادت لسنوات، ويضعنا أمام ضرورة إعادة التفكير في طبيعة المصادر التي نثق بها وفي دور الإعلام في تشكيل الرأي العام.