أتخيل في وقفة تأملية متكررة، أعشق مساحتها بين الفينة والأخرى، وأعشق الود والأمل الذي ترسمه في نفسي، في دنيا سريعة الدوران، مليئة بالأقدار. أحاكي شخوصاً أحببتهم، ومواقف خضت فيها أثراً جميلاً، وأحلاماً أبحث عن واقعيتها. اسمحوا لي أن أحاكي شيئاً مما في النفس، لعله يبقى أثراً تقرؤه الأنفس المشتاقة لمعانيه.

إلى أمي الحنون، التي أنجبتني بحنانها الفياض، وبكرمها وسخائها، وبعطفها، ولأني آخر العنقود، فكنت لا أتردد أبداً في أن أضع رأسي في حضنها الدافئ، أستنشق عبير الود والمحبة والأمومة. لم أشبع كثيراً من القرب منكِ، وخدمتكِ، فكنت الأصغر، وشاءت الأقدار أن ترقدي في آخر سنواتك على سرير المرض. مازلت أتربع على مساحة حبكِ، وعلى فيض حنانكِ وكرمكِ، فقد تعلّمت منك الكثير. طبق الظهيرة وطبق رمضان، أحمله لبيت الجيران، أثره في حياتي بائنٌ جارٍ، وفي كل مقام أبتعد عنه، أعود لأتذكر كلامك الحنون، ونظراتك وسؤالك عني الذي لا ينقطع. اللهم ارحمها كما ربّتني صغيراً، واجمعني بها في الفردوس الأعلى.

إلى أبي الحبيب، لا أنسى تلك الوقفات التي كنت لي فيها سنداً، علمتني تحمّل المسؤولية، وكيف أعتمد على نفسي، علمتني حبّ المسجد ونداء الصلاة. اشتقت لصوتك الشجي في محراب مسجد المعاودة، وإلى دعائك الجميل الندي في رمضان خلال صلاة التراويح. وكما يقولون: الأب سند، نعم، سند لأبنائه وأسرته، فهو دائماً يكتب كلمات احتفظت بها.. يكفي أن أراك سعيداً في حياتك، ولا يحمل قلبك هماً أو كدَراً. أفخر بك يا أبي، كلما سمعت أولئك الذين تتلمذوا على يديك، وأفخر بك في كل لحظة عندما أستذكر وقفاتك التي بقيت أثراً جارياً في حياتي وحياة أسرتي. اللهم ارحمه كما رباني صغيراً، واجمعني به في الفردوس الأعلى.

إلى إخواني وأخواتي الكبار، إلى سندي في الحياة، إلى من أشتاق إلى لقائهم في كل حين، إلى من عشت معهم بين جدران البيت العود، الذي كلما مررت على أثره في فرجان الحالة، استذكرت لحظات جميلة عشناها معاً، وكنتم لي سنداً وعوناً في حوائج الحياة. كلما التقينا، كلما قرأت على تقاسيم وجوهكم تعب الأيام، والحنين للماضي الجميل، ومعه أتأمل ضحكاتكم وعفويتكم وصبركم على أقدار الحياة، وأقرأ ما بين السطور حبكم الأصيل، ومشاعركم الدافئة، وسماحة نفوسكم، وقدرتكم على مواصلة مسيرة المحبة التي خطها والدانا، وإلى أن تكونوا عمداء للخير، تزرعون المحبة في الأجيال، وتروونها بحكمتكم وخبرتكم الناضجة. نعم، هنا نلتقي معكم لنروي للأجيال حكاية تواصل ومحبة وعطاء، حكاية منبعها الخير وصفاء القلوب وجمال النفوس، لا تلتفت للماضي الأليم، ولا تركن للدعة والكسل، ولا تنشغل بالمكائد الشيطانية التي تسعى للنخر في بنيان الأسر الطيبة. ربي يحفظكم ويُبقيكم لنا ذخراً وسنداً في الحياة، ويمد أعماركم في طاعته بصحة وعافية.

إلى الأثر الجميل الذي أحبه وأحببته، إلى ذلك الشعار الأثير إلى قلبي «ويبقى الأثر»، وإلى كل مواقفه وميادينه ومحطاته وشخوصه، إلى كل معاني الخير التي حملتها في قلبي، والتي كانت لها مقاصد كثيرة، أرجعها دائماً إلى إرضاء ربي، وإلى أن أكون حصاداً بائناً في حياة الآخرين. سأظل على العهد ما حييت، عنواناً للخير، يترك أثره أينما كان، يعرفه من عرف نوايا قلبي، ومن عرف كيف نسير في خطوات الخير بلا تردد، هدفنا رضا الله تعالى أولاً، فهو المسلك الأصيل لعناوين النجاح.

ذلك الأثر الذي خط مداه في سنوات التأهيل الأولى، حين تبادلنا اللقيا، وكان ذاتية العطاء حينها تبادر للعمل دون تسويف. بادرنا للتعلم، وبعدها قدمنا ما تعلمناه لأجيال أخرى، وكان الحصاد والأثر جميلاً في ميدان تعليم كتاب الله الكريم، أجملها عندما يلقاك أحدهم على قارعة الطريق ويذكرك بتلك الحلقة القرآنية في المسجد التي تعلم فيها، وأضحى اليوم طبيباً ماهراً يبلغ من العمر أربعين سنة، وعندما يبادلك مشاعر الدفء، من علمته حرفاً وصنعت له مجداً وأثرت إيجاباً في شخصيته، حينها تتهلل أسارير وجهك فرحاً، بأن هناك دعوات خفية قد سُخرت لك، لتخفف عنك ما ينتظرك في الغيب.

أما أولئك الذين تعلموا الأذكار وزاملوك في أجمل البقاع في مكة ومنى وعرفات، فالأثر معهم باقٍ أبداً ما حييت. هي قصة أخرى من الأثر صنعت في أطهر البقاع، بفضل الله تعالى أولاً، ثم بفضل أناس سخروا حياتهم لله لخدمة ضيوف الرحمن، فاختارك الرحمن لتكون خادماً لضيوفه دون تردد، واصطفاك لتكون هناك في أرض الفيوض الربانية. هو الأثر الباقي الذي لا يتنازل عنه المرء، وهو توفيق المنان الكريم الذي يكرمك بنيتك، ويصطفيك لتغسل نفسك من أدران الحياة، هناك فقط يبقى الأثر.. يبقى بخير تتركه في قلوب الحجاج المتعطشين للارتواء من أنهار الإيمان والقرب من الله، وتبقى بعدها أصداء صوتك، يستذكرون فيها كل لحظة عاشوها معك، وارتوت نفوسهم من معين الذكر والدعاء، ولربما تلك الأناشيد وأجواء المسابقات التي تركت أثراً وابتسامات جميلة. هي مساحات صغيرة من بحر كبير، تأملت على شاطئه ما يعينني لكي أستمر في مسير الحياة، أفضل مما كنت، ونحن على العهد باقون، نقدم الخير ونعطي الحياة، ونزيد من طاقة الأيادي المرفوعة إلى السماء، تدعو لنا في كل حين.

ومضة أمل

سطور كثيرة نعشق جمالها، تجعلنا نصد كثيراً عن كل ما يعكر صفو حياتنا، ويعكر مسير الأثر الجميل، ومقاصدنا التي ترنو إلى جنة عرضها السموات والأرض. اللهم اجعلنا خيراً مما يظنون، ولا تؤاخذنا بما يقولون، واغفر لنا ما لا يعلمون.