بحلول النّصف الثّاني من عام 2025، تصاعدت الهجمات السَّيبرانية بوتيرةٍ غير مسبوقة، مُستهدفةً قطاعاتٍ حيوية وشركاتٍ كبرى. فقد شهدت الساحة العالمية سلسلةً من الاختراقات الإلكترونية وهجمات برامج الفدية (Ransomware)؛ أثّرت على مؤسساتٍ صناعية وتجارية وثقافية، وأحدثت أضراراً اقتصادية واستراتيجية جسيمة؛ مما يُشير إلى تحوّل المجال الرقميّ إلى ساحةِ صراعٍ معقّدة تتطلّب يقظةً دائمة واستجابةً حازمة.

من أبرز هذه الحوادث، تعرّضت شركة «Jaguar Land Rover» البريطانية لهجومٍ إلكتروني واسع النطاق؛ أدّى إلى توقف الإنتاج في مصانعها لنحو ستةِ أسابيع، متكبّدةً خسائر تُقدّر بحوالي 1.9 مليار جنيه إسترليني، ممّا جعلها أضخم خسارة سيبرانية في تاريخ المملكة المتحدة. وفي حادثةٍ مماثلةٍ، اضطُرّت سلسلة متاجر «Marks & Spencer» إلى تعليق خدماتها الإلكترونيّة إثر اختراق أنظمتها عبر طرفٍ ثالث، مما أدّى إلى تعطّل الطّلبات وتراجع المعروض من المنتجات وخسائر تشغيلية بلغت نحو 300 مليون جنيه إسترليني، غُطّي منها حوالي 100 مليون عن طريق التّأمين.

وفي القطاع الإعلامي، استهدفت مجموعة CL0P الإجرامية أنظمة صحيفة «واشنطن بوست»، ضمن حملةٍ عالمية استغلّت ثغراتٍ في منصّة Oracle E-Business Suite، وطالت أكثر من 100 مؤسّسة دوليّة. أما في اليابان، فقد تعرّضت شركة «Asahi» لهجوم سيبراني عطّل أنظمة الطلب والشحن، وأجبرها على تعليق العمليات الإنتاجيّة مُؤقتاً. وفي المجال الثقافيّ، تسرّب ألبُوم الفنّانة الإسبانية العالميّة «روزاليا» بعنوان Lux قبل موعد طرحه الرسمي، ممّا أثار مخاوف مُتجددةً حول حمايةِ الملكيّة الفكريّة في البيئة الرقميّة.

في مواجهة هذه التّحديات المتصاعدة، تبرز مملكة البحرين كنموذج متقدّم في بناء منظومة وطنية متكاملة للأمن السيبراني، ويتجسّد ذلك في جهود المركز الوطني للأمن السيبراني؛ الذي اعتمد رؤيةً استراتيجية ترتكز على تطوير السّياسات وتعزيز البنية الرقميّة وتأهيل الكوادر الوطنية، إلى جانب برامج توعويةٍ دائمة تُرسّخ الوعي المجتمعيّ بالمخاطر السّيبرانية.

وفي هذا الإطار، شكّلت استضافةُ المركز مؤخراً للنسخة الثّالثة من المؤتمر والمعرض العربي الدوليّ للأمن السيبرانيّ (AICS 2025) محطةً مفصلية في مسيرة المملكة الرقميّة. حيث أُقيم المؤتمر برعايةٍ كريمة من صاحب السُّمو الملكيّ الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، وليّ العهد نائب القائد الأعلى للقوّات المسلحة رئيس مجلس الوزراء حفظه الله. وشكّل هذا الحدث نقلةً نوعية، وذلك بما شهده من تعاونٍ مع مؤتمر DEF CON العالميّ، في أول ظهورٍ له في منطقة الشّرق الأوسط، عبر فعاليات «قرى DEF CON» المتخصّصة في الذكاء الاصطناعي والأمن الفضائيّ والسّحابي. كما استقطب المؤتمر نُخبةً من الخبراء الدوليين ومُمثّلي كُبرى شركات التقنية والمؤسّسات الأكاديميّة؛ مما يعكس المكانة الدولية المتنامية التي باتت تحتلها البحرين في مجال الأمن السيبراني.

وقد أكّد سمو الفريق الركن الشّيخ ناصر بن حمد آل خليفة، مستشار الأمن الوطني قائد الحرس الملكي الأمين العام لمجلس الدفاع الأعلى، في كلمته الافتتاحية للمؤتمر، أنّ التّحول الرقمي لم يَعد خياراً رفاهيّاً؛ بل أصبح ضرورةً استراتيجيّة لضمان المستقبل. وأشار سموه إلى ضرورة إعادة تعريف الأمن في ظل التّطورات المتلاحقة للذكاء الاصطناعي وتَنامي التّهديدات السّيبرانية على البُنى التحتيَّة وسلاسل الإمداد، داعيّاً إلى بناء وعيٍ مجتمعيٍ عميق بهذه القضّايا، وتوجيه الأجيال لصناعة التقنيّة لا الاستهلاك فقط.

وفي الختام، فإن ما تقوم به مملكة البحرين في هذا الإطار، ليس مُجرّد ردٍ على تحديات الواقع؛ بل هو رؤيةٌ استشرافية واستثمارٌ في أمنٍ سياديٍ رقميٍ مستدام، فالأمن السّيبرانيّ، في عصر العولمة الرقميَّة، أصبح عاملاً حاسماً في تأمين السّيادة ورافداً أساسياً للتنمية الوطنية ومحوراً يُفترض أن يُستثمر فيه بنهجٍ تكاملي يجمع بين الرُّؤى المحليّة والشراكات الدوليّة.