في هذا العصر الرقمي، أصبح كل ما حولنا متصلاً بالإنترنت.. الهاتف، التلفاز، حتى الثلاجة والباب. وهذه الراحة التقنية التي نعيشها لها وجه آخر، إذ فتحت الأبواب للمخترقين ليعبثوا بما يشاؤون. لم يعد الدخول إلى أنظمتنا يتطلب جهداً خارقاً، بل قد يبدأ من جهاز بسيط في الزاوية لم نفكر يوماً أنه قد يشكل خطراً. وهنا ظهرت فكرة Cybersecurity Mesh، أو شبكة الأمن السيبراني الشبكي، لتكون الحارس الجديد لعالمنا المتصل.
فكرتها ليست معقّدة: بدلاً من بناء جدار واحد يحيط بالشبكة بأكملها، يتم توزيع الحماية على كل جزء منها. كل جهاز، كل تطبيق، كل مستخدم له سُورُهُ الخاص. وإذا حاول أحدهم التسلل من جهاز ما، لن يجد الطريق مفروشاً للوصول إلى البقية. كأنك تجعل لكل غرفة في بيتك مفتاحاً مختلفاً، فلا تكفي نسخة واحدة لاختراق كل شيء.
هذه ليست خيالات تقنية، بل واقع يتكرّر. في إحدى الحالات الشهيرة، استُخدمت ثلاجات ذكية في إرسال رسائل إلكترونية مزعجة دون علم أصحابها. الثلاجة كانت تُبرّد الطعام وتُرسل «سبام» في الوقت ذاته! السبب؟ لم تكن محمية بشكل مستقل، بل كانت جزءاً من شبكة ضعيفة الرقابة.
وفي بيئة العمل، بات الأمر أكثر أهمية. كثير من الموظفين يعملون من منازلهم، على شبكة منزلية تشاركها أجهزة الأطفال وألعاب الفيديو. وإذا تمكن أحد المتسللين من الدخول عبر جهاز غير محمي، قد يجد نفسه قريباً من مستندات الشركة الحساسة. لكن عند استخدام شبكة أمن سيبراني موزعة، يصبح كل جهاز محمياً بذاته، مهما كان موقعه.
المستشفيات كذلك دخلت هذا المجال، لحماية السجلات الطبية التي أصبحت رقمية بالكامل. النظام الشبكي يضمن أن الطبيب وحده من يستطيع الوصول إلى بيانات مريضه، حتى إن كان يستخدم جهازاً محمولاً أو يعمل من موقع مختلف. فلا مجال للعبث أو تسرب المعلومات.التقارير الحديثة تشير إلى أن المؤسسات التي اعتمدت هذا النوع من الحماية خفّضت خسائرها الناتجة عن الهجمات الإلكترونية بنسبة قد تصل إلى 90%. هذا رقم كبير يثبت أن توزيع الحماية أكثر فعالية من مركزيتها.
باختصار، لم يعد منطق «جدار واحد لكل شيء» يناسب تعقيدات هذا الزمن. صار علينا أن نحمي كل باب، كل نافذة، وكل جهاز كما نحمي بيوتنا ومقتنياتنا. فهل يُعقل أن نترك مفتاح البيت تحت السجادة، ثم نستغرب إن دُخِل علينا؟!
المشكلة أن بعضنا ما زال يستخدم كلمات سر من نوع «123456»، ويتوقع أن الأمان سيأتيه من الغيب. لكن الحقيقة أن الأمن يبدأ بالوعي، ويُستكمل بأن يكون لكل جهازٍ حصانته، ولكل نقطة في عالمنا الرقمي درعها الخاص. وهكذا، نعيش في عالم متصل.. لكنه آمن.
* خبير تقني