في الأسبوع الماضي الذي ازدانت فيه قاعات متحف البحرين الوطني بالضوء والرمز والذاكرة، بدا جناح مجلس التعاون الخليجي وكأنه يستعيد الزمن ويستشرفه في آنٍ واحد؛ فهنا، في هذا الفضاء الثقافي العريق، انطلقت رحلة جديدة من قراءة الماضي وتشكيل المستقبل، رحلةٌ لا تقف عند حدود العرض المتحفي، بل تتجاوزها إلى سؤالٍ أعمق: ما الذي يعنيه أن تُستعاد مسيرة أربعة عقود أمام عين الخليج، في لحظة إقليمية تتطلب من الجميع شجاعة الرؤية وحكمة البناء؟

ما يقدّمه الجناح ليس مجرد توثيق لمرحلة التأسيس في عام 1981، ولا مجرد تسطير لأقوال القادة أو عرضٍ لصور تذكارية تُسعف الذاكرة الجماعية، إنه استحضار لمعنى الشراكة الخليجية التي تشكّلت على امتداد أكثر من 44 عاماً، حيث انتقلت منظومة التعاون من فكرة إلى واقع، ومن واقع إلى مشروعٍ مستقبلي يتجاوز الجغرافيا والسياسة نحو بناء مواطنة خليجية متكاملة، ولعل ما يعزّز هذا الشعور أن الجناح يعرض، عبر تسع مناطق رئيسية وأكثر من 120 عنواناً فرعياً، خلاصة جهدٍ تنموي امتد عبر السياسة والدفاع والتعليم والاقتصاد والتشريع، في مشهدٍ يوحي بأن منظومة التعاون لم تعد خياراً، بل ضرورة تاريخية تفرضها متغيرات العالم.

ولعل المقارنة بين بدايات المجلس وما وصل إليه اليوم تكشف حجم التحول؛ فبعد أن كان العمل الخليجي المشترك يقوم على تنسيق محدود في مجالات واضحة، أصبح اليوم يعكس مشاريع بنيوية كبرى، من السوق الخليجية المشتركة، إلى الربط الكهربائي، إلى مشروع السكك الحديدية الذي يمثل علامة فارقة للتحول نحو اقتصاد متصل إقليمياً، هذه المشاريع لا تحمل فقط قيمة تنفيذية، بل قيمة فلسفية: إنها تؤسس لمفهوم «القدرة الجماعية» في مواجهة تحديات عالم يتغير بسرعة تفوق سرعة القرارات التقليدية.

ومع هذا الزخم، تبرز البحرين اليوم، وهي تستعد لرئاسة الدورة السادسة والأربعين، بوصفها حاضنة لهذا المشهد الخليجي الجامع، فالرئاسة القادمة لا تقتصر على إدارة ملفات، بل على إعادة صياغة سؤال التكامل نفسه: كيف يمكن لدول الخليج أن تنتقل من تعاونٍ ناجح إلى تكاملٍ قادر على إنتاج نموذجٍ تنموي تفاوض به العالم بثقة؟ وكيف يمكن تحويل الإرث الذي يمثله الجناح إلى خارطة طريق مستقبلية تستجيب لطموحات شعوب يتخطى تعدادها 60 مليون نسمة، وتطمح إلى بنية اقتصادية مستدامة تتجاوز الريع إلى الابتكار والتكنولوجيا؟

اللافت في تصريحات الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية جاسم البديوي أن الجناح ليس استدعاءً للماضي فقط، بل خارطة لزمنٍ قادم، يضع القمة المقبلة في الثالث من ديسمبر2025 في موقع «المنعطف»، فالحديث عن رؤية خليجية مشتركة، وعن جدول أعمال «حافل»، يشير بأن المجلس يستعد لمرحلة نوعية في العمل السياسي والاقتصادي والدفاعي، مرحلة قد تُقاس لا بعدد الاتفاقيات، بل بعمق التحولات التي تمهّد لاقتصادٍ خليجي موحّد، ومنطقة تؤمن بأن حماية المستقبل تبدأ من صيانة بنية التعاون اليوم.

إن الجناح في صورته الكاملة يبدو كأنه مرآة؛ تعكس وجه الخليج الذي كان، وتعيد تشكيل وجه الخليج الذي سيكون، وما بين الصورتين، يقف المتلقي أمام سؤالٍ بسيط وعميق: هل ما تحقق هو نهاية المسار، أم بداية جديدة لرحلة تحتاج إلى جرأة أكبر في اتخاذ القرارات؟ في ظلال هذا السؤال، تصبح القمة المقبلة أكثر من اجتماعٍ قيادي؛ تصبح وعداً باستكمال مشروع بدأ منذ أربعة عقود، ولا يزال يكتب فصوله حتى الآن.

وقفة«على عتبة التكامل، تقف البحرين كشعلةٍ أولى أضاءت الطريق؛ فما بدأ خطوةً في سياسة وطن، صار اليوم أفقاً يتسع لمسيرة مجلس التعاون الخليجي بأكمله، هكذا يفعل الزمن بالرؤى الصادقة: يحوّلها من مبادرةٍ صغيرة إلى مسارٍ تتقدّم به دولٌ توحّد رؤاها نحو مستقبلٍ واحد».* إعلامية وباحثة أكاديمية