كان مشروع «الويكند» هو مشاهدة برنامج «قدها»، ولكن ما توقفت عنده طويلًا قبل أن أشاهد الحلقات الجديدة من «قدها» لم تكن فقط مشاهد اللياقة، ولا قسوة التحديات، ولا لحظات الانسحاب، وإنما تلك المفردة التي حملها البرنامج عنواناً له، «قدها» كلمة صغيرة، لكنها تختزن إرثاً قيمياً ضخماً في الوجدان البحريني؛ فهي كلمة تُقال عندما يريد المجتمع أن يوقظ الطاقة الخام داخل الإنسان، وأن ينفض عنه غبار التردّد، وأن يدفعه إلى الأمام بثقة، هذه الكلمة وحدها مشروعٌ للتحفيز، ومفتاح لبناء شخصية قادرة على مواجهة الحياة كما هي، دون تجميل ودون أعذار.

أستعيد هنا مفردة بحرينية أخرى لا تقل عمقاً: «كفو»، وهي كانت عنواناً لبرنامج اجتماعي لامس الناس، ولامست الناس روحه، فكلمة «كفو» تُقال بعد الإنجاز، و«قدها» تُقال قبله، وبينهما طريقٌ طويل من الإرادة والعرق والتجربة، وبيتٌ واحد يجمعهما: البيت البحريني الذي يتوارث قيم العزم، ويمنح أبناءه الثقة قبل البداية، والشكر والثناء بعد الوصول.

هذا الرابط بين المفردتين ليس لغوياً فقط، وإنما اجتماعي وثقافي، وقد التقطته مبادرة «قدها» بذكاء؛ فحوّلت الكلمة إلى مساحة اختبارٍ حقيقي، يعيش فيها الشباب تجربة تكشف لهم حدودهم، ثم تكسر تلك الحدود واحداً تلو الآخر، النسخة الثانية جاءت أكثر صلابة، أكثر واقعية، وأكثر اقتراباً من جوهر الإنسان حين يوضع أمام ذاته بلا رتوش.

وما حدث خلف الكاميرا يوازي ما ظهر أمامها، ومن يتابع تجربة المخرج أحمد الشيخ، يُدرك أن العمل لم يكن تصويراً ومونتاجاً وحسب، وإنما خلق بيئة كاملة تحترم الحقيقة. ثماني كاميرات رئيسة، كاميرتان فرعيتان، طائرة درون، ألف ساعة تصوير، وثمانية أشهر من المونتاج؛ وهذا دليل على عقلية إخراجية تُعامل المشروع بروح عالمية، وتُقدّم صورة البحرين في أرقى مستوى فني يمكن أن يصل إليه برنامج واقعي، فالمخرج البحريني أحمد الشيخ لم ينقل لنا الأحداث وروحها معها، بل انحاز للواقعية دون تزيين، وللّحظة الصادقة دون افتعال.

ولولا الدعم الكبير الذي حظي به البرنامج من سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، وتوجيهاته التي تعكس ثقة بالجيل وقدرته على الارتقاء، لما وصلت النسخة الثانية بهذا المستوى، كما أضاءت المتابعة الدقيقة لسمو الشيخ خالد بن حمد آل خليفة مسار العمل، فتشكلت نسخة أكثر احترافية، وأكثر جاذبية، وأكثر نضجاً في تقديم تجربة شبابية تحترم ذكاء المتلقي وتليق باسم البحرين.

وفي قلب كل ذلك، يظهر الشباب البحريني الذين واجهوا البرد، والغبار، وقلة النوم، والضغط البدني والنفسي، ثم خرجوا بوجوه مختلفة، كل مشارك اكتشف شيئاً جديداً عن نفسه؛ اكتشف أن الصبر يمكن أن يُدرّب، وأن الإرادة تكبر بالاختبار، وأن المسؤولية تبدأ حين يُنتزع من الإنسان هاتفه وراحته وساعات نومه، ويُطلب منه أن يعمل بروح الفريق، ويحترم الزمن، ويثبت أنه «قدها» في كل لحظة.

هذه المبادرة الإعلامية عملت على بناء الإنسان، وهي مشروع لتكريس قيم الانضباط، وتعزيز روح العمل الجماعي، وإعادة تعريف العلاقة بين الشاب وطاقته الداخلية، ولهذا السبب، لا أتردد في القول إن «قدها» لن يبقى بحرينياً فقط، فكما انتقل «كفو» إلى شاشات خليجية لأنه حمل روحاً مشتركة بين مجتمعات المنطقة، فإن «قدها» يملك كل مقومات التوسّع، وسيجد مكانه الطبيعي أولاً في نسخة خليجية، ثم عربية، ثم عالمية؛ لأن اختبار الإرادة قيمة لا تنتمي لبلد واحد، وإنما للطبيعة البشرية كلها.

نحن أمام مشروع شبابي ذكي، يجمع بين القيم والواقعية، بين التحفيز والتحدي، وبين الهوية البحرينية والرؤية العالمية، مشروع يُعيد تعريف المواطنة عبر العمل، ويُعيد تشكيل صورة البحرين بوصفها دولة تصنع برامج مؤثرة، وتقدم محتوى محترفاً، وتؤمن بإمكانات جيلها.

وهذا هو جوهر الفكرة، والرسالة هي أن «شباب البحرين.. قدها»، وبرامج المخرجين البحرينيين قادرة على الذهاب بعيداً.