قبل أيام قليلة انتشر مقطع في منصات التواصل الاجتماعي، لشخص يسقط من قاربه في البحر، السقوط ليس خطيراً، والمقطع يمكن تصنيفه ضمن المقاطع المضحكة، اللطيف أن المقطع ليس جديداً ربما يعود إلى خمس سنوات، وقد حصل على شهرته في تلك الفترة وتداوله الناس أيضاً، إلا أن التعليقات على الفيديو نفسه عندما نشر من جديد، تعاملت مع الناشر على أنه أتى بشيء جديد، ربما بعض المعلقين لم يمر عليهم سابقاً، لكن الآخرين لابد وأنهم شاهدوا المقطع من قبل، كونهم ممن يهتم بمتابعة هذا النوع من المقاطع، وكذلك هذه المقاطع لها دورة حياة، حيث يبدأ المقطع حياته في واتس اب ينتقل من مجموعة لأخرى ومن حساب لآخر، ثم يصل تيك توك، بعدها يصل فيس بوك وانستغرام متأخراً، حتى يشيخ ويدفن، إنها ليست حالة فردية بل هو وضع طبيعي ونموذج يتكرر، لكن الغريب مع هذا الإعلام الجديد أن ذاكرة الناس أصبحت كذاكرة السمك، لأن كثيراً منهم يشاهدون ما شاهدوه من قبل، ويعيدون التفاعل معه كأنهم لم يتعرفوا عليه من قبل، وكل ما حصل أن النشر أعيد بتعليق جديد.
في الواقع نحن نشارك منشورات عبارة عن فيديو أو صورة لشخصيات مكتوب عليها جملة باللغة العربية، تلامس الروح، تنسب لهم، وليس لدينا الوقت للتحقق منها، وربما بعد فترة يعاد نشرها موضوعة على صورة شخصية أخرى، ونتفاعل معها أيضاً، والمشكلة تكمن في أن العقل البشري ومع كثرة المنشورات، بدأ يدخل في وضع إعادة التشغيل التلقائي، ولا يخزن شيئاً في هذا الجانب، فأصبح كل شيء يستهلك وينسى، ثم يظهر فجأة ويعاد استهلاكه من جديد، المشكلة ليست في أن الناس يعيدون مشاهدة المحتوى، وربما إلى فترة قريبة كانت المشكلة في أنهم يقعون في الأخطاء الاجتماعية نفسها الناتجة عن مشاهدة هذه المقاطع، المشكلة الحقيقية اليوم في أن كثيراً من الذين يتولون عملية الإنتاج الأولى وأعني من يبحث عن مقطع فيديو هنا وهناك ليضع عليه تعليقه ويخرجه إلى الجمهور، لم تعد لديه الرغبة والقدرة على الإنتاج وبدأ يلجأ إلى منصات الذكاء الاصطناعي لتصنع له الحدث الذي يتخيله صناعة كاملة، ويظهره على أنه مقطع حقيقي ويضيف عليه التعليق المناسب لترويجه، وهذا في الواقع أسوأ ما في الأمر، لأن النسبة الأكبر من المتلقين ليست لديهم القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مفبرك، وعادة ما يتشاركون هذه المقاطع ويبنون عليها رأياً ويكونون أفكاراً جديدة، ومع إعادة تدوير الذاكرة، ستنتشر في المجتمع معارف ومفاهيم غير صحيحة، هذا بالإضافة إلى أحداث غير واقعية تستخدم لترويج بضاعة أو سياحة أو حتى أفكار غير صحيحة أو العكس من ذلك وهو تشويه الحقائق.
حتى تنضج مخرجات الذكاء الاصطناعي في الجانب الإعلامي، وحتى تستقر، وتوضع لها قوانين وتعليمات منظمة لها في العالم، سنستمر في تلقي كثير من المنتجات غير الحقيقية.
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية