تخيّل معي هذا المشهد البسيط الذي يمرّ علينا كل يوم: تفتح الثلاجة في ظهيرة بحرينية خانقة، تبحث عن قطعة جبن أو علبة فراولة اشتريتها قبل يومين.. لكن المفاجأة؟ الجبن تغيّر لونه، والفراولة صارت مشروع مربّى غير معلن. وهنا يبدأ الحوار الداخلي المعتاد: «أنا ما شريت هالشي أمس؟ ليش خرب؟» ثم نرميه في القمامة ونقتنع أن «هذا نصيب»، بينما الحقيقة أن الحرارة، والرطوبة، ورحلة الاستيراد الطويلة كلّها متآمرة على ثلاجتنا المسكينة.

هذه اللحظة اليومية البسيطة هي بالضبط الباب الذي تدخل منه تقنية «التغليف الذكي بتقنية النانو». التقنية التي تبدو وكأنها من عالم الأبطال الخارقين، لكنها في الحقيقة أقرب إلينا من حرارة شمس أغسطس. الهدف؟ أن توقف مسلسل «فساد الأكل» قبل أن يصل إلى طاولة العشاء، أو بالأصح: قبل أن يصل إلى سلة المهملات.

الفكرة أن عبوة الطعام لم تعد مجرد كيس بلاستيك صامت، بل صارت مثل موظف نشيط لا يعرف الكسل. تخيّل معي عبوة عصير فيها «مستشعر صغير» يغيّر لونه إذا انقطعت سلسلة التبريد، أو لحم مبرّد محفوظ في غلاف يقتل البكتيريا قبل أن تقتل مزاجك. بل حتى الأسماك -التي عادةً نترك تقييمها لـ«شمّ»، وهو جهاز تحليلي نملكه بالفطرة- صار لها ملصق نانوي يتحوّل من الأزرق إلى الأحمر عند أول إشارة فساد، بدون ما يدخل أنفك في القصة أساساً.

فالتكنولوجيا التي تقرأ الغازات وتعرف تاريخ الحرارة وتستشعر الملوثات، تشتغل أحياناً أكثر من بعض الناس في دواماتهم. عبوة بلاستيكية صارت عندها حس مسؤولية أعلى من بعض الموظفين اللي إذا الجو صار رطوبة 70٪ قالوا: «ما يصير شغل اليوم».

وإذا قلنا نانو؟ لا تتصور أنها كائنات فضائية تدور فوق البيت. هذه مجرد جسيمات صغيرة جداً- جزء من المليار من المتر- لكنها تسوّي شغلاً أكبر من حجمها. الفضة النانوية تمنع البكتيريا من التكاثر، النانوكربون يعزّز قوة العبوة، والنانوكلي يحوّل البلاستيك إلى جدار حصين في وجه الرطوبة. يعني باختصار، كل عدو طبيعي للأكل في الخليج يجد أمامه اليوم خصماً نانوياً محترفاً.

وهنا ندخل البحرين في الصورة. بلد يستورد 90% من غذائه، ودرجات الحرارة فيه توصل لمستوى «اختبار نفسي»، وسلسلة التبريد تمرّ برحلة تشبه سباق تحمّل: من سفينة إلى شاحنة إلى جسر إلى سوبرماركت. أي خلل بسيط في الطريق كفيل بتحويل دجاجة مجمّدة إلى فيلم رعب، ومعه يرتفع مستوى الهدر الغذائي اللي يكلف مليارات حول العالم.

التغليف الذكي بالنانو لا يعد فقط بزيادة عمر الأكل، بل بتقليل الهدر، وتخفيف الضغط على جيبك، وعلى جيب الدولة، وعلى أعصاب المستهلك اللي ملّ من المفاجآت غير السارة. بل قد يصل اليوم الذي تمسك فيه عبوة اللبن وتسمعها «تهمس» لك عبر تطبيق: «ترى أنا كنت في حرارة 12 درجة قبل 3 ساعات، بس الأمور تمشي تمام».

كل هذا يجعلنا نعيد التفكير في علاقتنا بالأكل.. وبالعبوات أيضًا. فمن كان يصدّق أن الغلاف -الشيء اللي نرميه أول شيء بعد فتح المنتج- سيصبح بطل القصة؟ بطل صغير، نانوي، لكنه يحمي غذاءنا، ويخفف هدرنا، ويضيف جرعة ذكاء لحياتنا اليومية.

في النهاية، يبدو أن ثلاجاتنا ستعيش مستقبلاً أسعد معنا، وربما نتوقف عن محادثة الفراولة قبل رميها. ومن يدري؟ يمكن يوم من الأيام تغليف النانو هو اللي سيحمينا من القرارات الغذائية المتسرعة.. أو على الأقل سيعطينا فرصة ثانية قبل أن نفسد العشاء!

* خبير تقني