شاهدت مقطعاً يتحدث فيه فخامة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول التوجّه لمحاسبة المناشدين باستغلال الطاقة الخضراء، وهو ضمنياً يقصد محاكتهم، وكوني أحد الداعين إلى ذلك منذ عام 1994 (منذ قبل 31 سنة) عندما نشرت بحثاً في مجلة علمية محكمة اسمها تكنولوجيا الطاقة المتجددة (بريطانية)، وكانت تتضمّن الدراسة حصر كل مصادر الطاقة المتجددة الممكن استغلالها في البحرين للتقليل من الاحترار العالمي بسبب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون -أي خفض البصمة الكربونية- فأعتقد أن دخولي أمريكا زائراً مشاركاً في منتدى علمي (طاقة وبيئة) بات مخيفاً، وقد أقبع في سجون غوانتنامو بتهمة التحريض على كراهية مصادر الطاقة الأحفورية (النفط والغاز)، وهو ما يضرّ بمصالح أمريكا العظمى.
في هذا الفيديو قال الرئيس الأمريكي معلومات لم يُوفّق مستشاروه في اختيارها، وهو كلام يضرّ بعلماء أمريكا، وبباحثيها، وبسمعتها العلمية والتقنية الرصينة؛ فبعلومهم تغيّرت سُبل الحياة، وصارت الرفاهية والراحة واختزال الوقت والإنجاز الكثير نظير عمل بشري هي سمات هذا العصر، إلى أن ساهموا في الوصول إلى تقنيات متقدّمة جداً في الاتصالات والذكاء الاصطناعي والتجارة الإلكترونية والطيران وسبر أسرار الفضاء، وهذا يعود بداية بفضل الله وبفضل جهود العلماء والباحثين ومراكز الأبحاث البحثية والتقنية الأمريكية؛ فكان حُسن إدارة العلوم، والرهان على نتائج أبحاث العلماء هو ما حقّق الاقتصاد الهائل لأمريكا وجعلها مصدر جذب لكل باحث متميّز طموح وموهوب، ومحطَّ أنظار الشركات العالمية للاستثمار في تلك العلوم.
عندما يكذّب فخامة الرئيس الأمريكي العلماء والباحثين الأمريكيين أولاً، ثم العالميين ثانياً في علوم الطاقة الخضراء والبيئة، فهو يكذب أو يرى عدم استحقاقية أمريكيين على 409 جوائز من نوبل من أصل 609 جوائز مُنحت للأفراد (أي حوالي 67% من الإجمالي؛ منهم 31 امرأة)، وإذا كانت الطاقة الخضراء والبيئة ذات صلة بالفيزياء والكيمياء، فهذا يعني توجّه الرئيس الأمريكي للتحقيق مع التالي:
1- إيمانويل شاربنتييه وجينيفر داودنا لتطوير طريقة كريسبر للتعديل الجيني، والتي يمكن استخدامها في تطبيقات مثل تطوير محاصيل أكثر مقاومة للتغير المناخي في عام 2020.
2- فرانسيس أرنولد (أمريكية) حصلت على نصف الجائزة لتطوير «التطور الموجّه» لإنتاج إنزيمات صديقة للبيئة في عام 2018.
3- ريتشارد هيك (اليابان)، وإيئيتشي نيجيشي (اليابان)، وأكيرا سوزوكي (اليابان) لتطوير تفاعلات الاقتران المحفزة بالبالاديوم في المذيبات العضوية، مما جعل العمليات الكيميائية أكثر كفاءة وأقل ضرراً للبيئة في عام 2010.
4- روبرت غرابز (أمريكي)، وريتشارد شروك (أمريكي) لتطوير «ميتاثيسيس» في الاصطناع العضوي، وهي طريقة أكثر نظافة وكفاء في عام 2005.
5- سيكورو مانابي (اليابان/أمريكا) للنمذجة الفيزيائية لمناخ الأرض، وقياس التقلبية والتنبؤ بشكل موثوق بالاحترار العالمي، وهذه الجائزة هي الأكثر ارتباطاً مباشرة بعلوم البيئة في عام 2021.
6- شوجي ناكامورا (اليابان/أمريكا) لاختراع الصمام الثنائي الباعث للضوء الأزرق الذي مكّن من مصادر الضوء الأبيض الموفرة للطاقة في عام 2014.
7- اللجنة الدولية للتغيرات المناخية (IPCC) والآغا خان (الولايات المتحدة) لجهودهم في بناء ونشر معرفة أكبر عن التغير المناخي الذي يصنعه الإنسان، ووضع الأسس للتدابير اللازمة لمكافحة هذا التغير في عام 2007.
8- انغاري ماثاي (كينيا) «لمساهمتها في مجال التنمية المستدامة والديمقراطية والسلام في عام 2004.
9- الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما «لمجهوداته الاستثنائية لتقوية الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب»، وشمل خطابه التركيز على تغير المناخ كتهديد عالمي في عام 2009.
إن وصف فخامة الرئيس الأمريكي جهود مكافحة التغير المناخي بـ»الخدعة» أو «الاحتيال» ومطالبته بمحاسبة الداعين إليها يحوي تناقضات ومعلومات خاطئة، فهي تتناقض بشكل مباشر مع الإجماع العلمي العالمي حول ظاهرة التغير المناخي ومصادر الطاقة المتجدد، أوجزها في التالي:
أولاً: زعم فخامة الرئيس الأمريكي ترامب بأن التغير المناخي هو «خدعة» وبأن التوقعات خاطئة.
الحقيقة العلمية: تؤكد الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) التابعة للأمم المتحدة، والآلاف من العلماء حول العالم، أن الاحترار العالمي حقيقة، وأن النشاط البشري (وخاصة حرق الوقود الأحفوري) هو السبب الرئيسي له، وهذا يؤكده التالي:
1- يُظهر سجل درجات الحرارة العالمية ارتفاعاً مستمراً ومقلقاً.
2- المؤشرات الفيزيائية، مثل ذوبان الأنهار الجليدية، وارتفاع مستوى سطح البحر، وحموضة المحيطات، كلها تدعم هذه الحقيقة.
ثانياً: وصف ترامب الطاقة الخضراء بأنها باهظة الثمن و»تدمر» الاقتصادات وتؤدي إلى فشل الدول.
الحقيقة الاقتصادية: على مدى العقد الماضي، انخفضت تكلفة توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بشكل كبير، وأصبحت في كثير من الأماكن أرخص من مصادر الوقود الأحفوري الجديدة.
1- الاستثمار: الاستثمار في الطاقة النظيفة يخلق فرص عمل جديدة في مجالات التصنيع والتركيب والصيانة، وهو ما يُعتبر «فرصة وظيفية كبرى في القرن الحادي والعشرين»، وليس عامل تدمير.
2- الأمن الطاقي: تعزز الطاقة المتجددة الأمن الطاقي للبلدان من خلال تقليل الاعتماد على استيراد الوقود الأحفوري المتقلب الأسعار والتعرض لتقلبات الأسواق الجيوسياسية.
ثالثاً: وصف ترامب مفهوم البصمة الكربونية بأنه «كذبة» أو «احتيال».
الحقيقة العلمية أن البصمة الكربونية هي مقياس علمي دقيق (يقاس بوحدات CO2 المكافئ) لتحديد كمية الغازات الدفيئة المنبعثة من نشاط معين أو كيان أو دولة، وهذا المفهوم أساسي لتحديد الأهداف وتقييم التقدم في خفض الانبعاثات، ويتم استخدامه على نطاق واسع من قبل الحكومات والشركات والمؤسسات المالية الدولية.
رابعاً: دعوة ترامب لمعاقبة أو التحقيق مع دعاة الطاقة الخضراء.
الحقيقة، هي خطوة ذات تداعيات سياسية وقانونية خطيرة، وتتجاهل السياق السياسي الدولي والمصالح الوطنية الأمريكية، وهي تشكل تناقضاً مع القيادة الأمريكية للأسباب التالية:
1- الموقف الحالي: تعود الإدارة الأمريكية الحالية إلى الالتزام باتفاق باريس للمناخ وتعمل على تعزيز الاستثمار في الطاقة النظيفة من خلال تشريعات مثل قانون خفض التضخم «Inflation Reduction Act« «IRA»؛ فتصريحات ترامب تمثل تراجعاً عن الالتزامات الدولية وتقويضاً للجهود الدبلوماسية الأمريكية في هذا المجال.
2- المساءلة السياسية: محاسبة المواطنين والشركات بناءً على توجهات علمية واقتصادية راسخة يُعتبر استخداماً سياسياً للسلطة يُثير مخاوف حول حرية التعبير العلمي والاقتصادي في الولايات المتحدة.
3- الدول التي تتجاهل العمل المناخي تخاطر بعقوبات تجارية محتملة (مثل آلية تعديل حدود الكربون للاتحاد الأوروبي) وعزلة دولية متزايدة.
4- هذا يتناقض مع المصالح الوطنية في أمريكا، فالتكنولوجيا والريادة تدفع سياسات الطاقة النظيفة نحو الابتكار التكنولوجي، وتمنح الولايات المتحدة فرصة للحفاظ على الريادة العالمية في صناعات المستقبل، مثل تصنيع البطاريات، والمركبات الكهربائية، وتطوير الهيدروجين الأخضر.
خامساً: ادعى أن الناشطين والمناشدين والعلماء في الطاقة الخضراء والبيئة يشكّلون مخاطر أمنية واقتصادية للمناخ.
للأسف، تجاهل فخامة الرئيس ترامب التقارير الاستخباراتية والعسكرية التي تعتبر التغير المناخي تهديداً للأمن القومي، حيث يؤدي إلى زعزعة استقرار مناطق، وزيادة النزاعات على الموارد، وتدمير البنى التحتية بسبب الظواهر الجوية المتطرّفة.
وختاماً، فإن لسان العلماء يقول لفخامة الرئيس الأمريكي ترامب «لا يوجد تناقض علمي جوهري في التوجّه نحو الطاقة الخضراء؛ بل هو ضرورة علمية واقتصادية وسياسية، فالانتقادات الموجّهة للطاقة الخضراء غالباً ما تركّز على التحديات الأولية (مثل التخزين المتقطع أو التكاليف الأولية) دون الأخذ في التقدّم التكنولوجي السريع الذي يحلّ هذه المشكلات (مثل تكنولوجيا تخزين الطاقة)، والتكاليف الخارجية الضخمة للوقود الأحفوري (مثل التلوث، والرعاية الصحية، وتكلفة الكوارث المناخية) والتي لا تُدرج في سعرها الأصلي».
* أستاذ الفيزياء التطبيقية بجامعة الخليج العربي