في عالم يشهد تحولات متسارعة في موازين القوة، وتغيرات جذرية في طبيعة العلاقات الدولية، تكتسب القمة الخليجية التي تستضيفها مملكة البحرين أهمية مضاعفة. فالقمة تأتي في لحظة تتقاطع فيها التحديات الاقتصادية مع الملفات الأمنية، ويعاد فيها تشكيل خرائط النفوذ على الصعيدين الإقليمي والدولي، الأمر الذي يجعل من اجتماع قادة الخليج محطة محورية في تحديد اتجاه المرحلة المقبلة.

لقد أثبتت دول مجلس التعاون الخليجي أنها ليست مجرد مجموعة دول متجاورة، بل كتلة سياسية واقتصادية تمتلك من الأدوات ما يجعلها قادرة على لعب دور مؤثر في محيط معقد. ولقد شهد العقد الأخير صعوداً واضحاً للدور الخليجي، سواء على مستوى الاستقرار الإقليمي أو على مستوى بناء شراكات دولية متوازنة. وفي هذا السياق، تمثل البحرين نقطة التقاء مهمة، لما عُرف عنها من حكمة سياسية وقدرة على إدارة الملفات الحساسة بروح توافقية.

ولا تقتصر أهمية القمة على بعدها السياسي، بل تمتد لتشمل ملفات اقتصادية واستراتيجية باتت جزءاً من أمن الدول واستدامة نموها. ومن بين هذه الملفات: أمن الطاقة وسلاسل الإمداد، التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، مشاريع الربط البري والبحري، توسيع نطاق السوق الخليجية المشتركة، بناء منظومات تنموية تتماشى مع رؤى 2030 و2050.

هذه القضايا لم تعد ملفات مستقبلية، بل متطلبات عاجلة لمرحلة جديدة من التكامل الخليجي.

كما تحمل القمة رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي: أن الخليج قادر على التحدث بصوت واحد، وبروح مسؤولة، وفي إطار رؤية متماسكة تتجاوز ظروف اللحظة. وفي وقت يعاد فيه تعريف الشراكات الدولية، يقدّم الخليج نموذجاً للدول القادرة على المواءمة بين الاستقلالية السياسية والانفتاح الاقتصادي، دون التفريط في استقرارها أو مصالحها العليا.

وتبرز البحرين في هذا السياق باعتبارها الدولة المضيفة، بما تمتلكه من رصيد سياسي ودبلوماسي مكّنها من استضافة هذا الحدث في ظرف دقيق. فالقمة في المنامة تعكس ثقة القادة الخليجيين بالدور البحريني، وبقدرة المملكة على توفير البيئة الملائمة لحوار استراتيجي بنّاء.

حجر الزاوية

إن حجر الزاوية في هذه القمة لا يتمثل في البيانات الختامية ولا في البروتوكولات، بل في قدرتها على ترسيخ منهج جديد للعمل الخليجي المشترك يقوم على الواقعية السياسية، وتكامل المصالح، واستباق المتغيرات الإقليمية والدولية. وما سيُبنى في المنامة يتجاوز مجرد اتفاقات، ليصبح أساساً لرؤية خليجية موحدة تحافظ على استقرار المنطقة وتفتح آفاقاً أوسع للتنمية والازدهار.

فالمرحلة المقبلة تتطلب من دول الخليج الانتقال من التنسيق إلى التكامل، ومن رد الفعل إلى صناعة الفعل. ومع انعقاد القمة في البحرين، تبدو الفرصة سانحة لصياغة إطار استراتيجي طويل المدى، يؤكد أن الخليج ماضٍ في طريقه بثقة، وأنه قادر -برؤية موحدة- على كتابة فصله القادم بيده.