د. توفيق السباعي

تبدو هذه الأيام وكأنها احتفاءٌ مفتوح بالوطن وتاريخه وأمجاده؛ تشعر أنه يلبس ثوباً من البهاء والبهجة، يختلط فيه تراث الأجداد بحداثة الحاضر. في موسم «أعياد البحرين» تتحاور الألوان والأصوات في كل زاوية؛ لتشكل سيمفونية من الفرح تتردد أصداؤها في قلوب المواطنين، حالة شعورية غامرة بالانتماء والاعتزاز بالهوية. وعلى امتداد المملكة، تزدان الشوارع بالأضواء الحمراء والبيضاء كأنَّ الوطن بأسره يبتسم احتفالاً.

ففي «ليالي المحرق»، يتحوّل عتيق المدينة إلى مسرحٍ يتلألأ فيه «مسار اللؤلؤ» بالأضواء كأنه عقدٌ من الدرر النادرة. وعلى أرصفة المحرق القديمة، ترتسم تفاصيل أُمسيةٍ مشبعة بالحنين: أضواء فوانيس تراثية تعانق جدران البيوت التاريخية لتستكشف القصص الشيقة وراءها، أصوات الموسيقى الشعبية تمتزج بهمسات البحر الهادئ بجوار الساحل. يتجاور الفن والتراث في هذه الليالي، وتتآلف أصوات العود والطبل مع ضحكات الصغار وأحاديث الكبار عن الذكريات الجميلة؛ فيتعانق الحاضر والماضي، ويتجذر الانتماء في قلب كل من يشارك في هذه الأمسيات البحرينية الأصيلة.

وفي الجانب الآخر من الجزيرة، تبسط «القرية التراثية» في منطقة رأس حيان أرض عسكر لتحكي حكاية فرجان الأول والبحّارة والتراث البحريني الأصيل. وفي استحضار لتلك الجذور التي لا تموت، حيث الحرفيون يعيدون ترتيب تراب الذاكرة، والجدّات يهمسن لأحفادهن عن زمنٍ كانت فيه النخلة رفيقة البيت؛ يقترب الزوار من أصالة الحياة القديمة، بل ويخوضون تجارب فعلية من حكايات الزمان وأسرار المهن والحرف، توشوشهم الرياح بعبير البخور ورائحة القهوة العربية، وتمتزج أصوات سعف النخيل بالأهازيج الفلكلورية وحفلات كورال البحرين والعرضات التقليدية. في القرية التراثية، لا تكتفي العيون بالمشاهدة، بل تتورط في عشق الأشياء البسيطة التي تصير بالانتماء أعظم من الذهب.

وعند صباح كل سبت، يفتح «سوق المزارعين» أبوابه في حديقة البديع النباتية، فتتلوّن الأرض المباركة بأطايب خيراتها الطازجة، من خضروات وفواكه ناضجة إلى أعشاب عطرية وعسل ذهبي. يلمع في الصباح ندى الحقول على خضرة المحاصيل، وتُعبّق الهواء برائحة الريحان والأرض الرطبة. يجتمّع الناس حول بسطات المزارعين بتبسّم وأُلفة، يتبادلون أحاديث الحقل وحكايات الزرع. هنا تتجلّى معانٍ أعمق للاحتفال، حيث تحتفي الطبيعة بالعطاء الذي تجود به التربة البحرينية.

وفي براري الصخير، تصدح فعالية «معرض مراعي 2025» بأنغام الأرض الخضراء وأصوات الطبيعة. يجتمع الخبراء في مجالات الزراعة وتربية الحيوانات ومحبو الطبيعة في الضيافة الكريمة لصحراء الجزيرة، يتبادلون المعرفة بين خيام المعرض وأجنحته المتنوّعة. هناك يتنادى أصدقاء الطبيعة، من خيل عربية أصيلة وإبل وأغنام، تزاحم هدير الآلات الزراعية الحديثة؛ ليضيء «مراعي» الطريق إلى غدٍ أخضر للمملكة، حيث تتضافر الجهود الوطنية لتعزيز الاستدامة الزراعية والأمن الغذائي. ولا يختصّ «مراعي» بالخبراء فحسب، بل يجذب كل صغير وكبير لبرامجه الترفيهية وعروضه التعليمية التي تنشر المتعة في نفوس الجميع.

ومازلنا ننتظر «هوى المنامة»، ذاك الميعاد الذي يوشك أن يحلّ، حيث العاصمة تحتفل بكونها ذاكرة وطن تعكس روح البحرين. الأزقة تستعد لارتداء ثوب الفرح، والقلوب تتهيّأ لطقوس عشق هذه المدينة، فـ»هوى المنامة» نداء هوية، لا يسمعه إلا من كان قلبه من بحرٍ ومن نور.

ما بين ليالٍ متلألئة في المحرق، وذكريات أجداد في عسكر، وصباحاتٍ بهيّةٍ في البديع، ومواسم حصاد في الصخير، وأمسياتٍ منتظَرة في العاصمة، تتجدّد أعيادنا ويتجدّد فينا الانتماء إلى هذه الأرض الطيبة، التي تسمو بقيادة حكيمة تقودها إلى القمّة. فشكرًا لكل من رسم تفاصيل فعاليات هذا العرس الوطني، ولكل من نسج من وقته ووجدانه خيوط هذا الفرح العامر الذي وحّد القلوب في أنشودة حب الوطن. شكراً لمنظمي فعاليات أعياد البحرين، شكراً للجهات الداعمة، وللقلوب التي آمنت أن الفرح فنّ، وأن الوطن يستحق أن يُحتفل به لحظة بلحظة كما يُحتفل بالعُمر الجميل.