في إحدى ليالي المحرّق، حين يلين الهواء وتخفت الضوضاء، من السهل أن نتخيّل مشهداً بسيطاً لكنه محيّر؛ رجلٌ أجنبي يسير في دواعيس ضيقة بثبات، ينعطف بثقة، ويتجاوز الإشارات كأنه يعرف المكان منذ الطفولة. لا يسأل، لا يتوقف، ولا يرفع هاتفاً ليتأكد. فقط نظارة على وجهه، وهدوء يشبه هدوء من يعرف طريقه. عندها يطلّ سؤال قديم بثوب جديد: هل أصبحت التكنولوجيا تحفظ الأمكنة بدلنا؟
لسنوات طويلة، تعودنا أن تكون علاقتنا بالتقنية علاقة انحناء. ننحني للهاتف، نخفض رؤوسنا للشاشة، ونغيب عن اللحظة بحجة التنظيم والسرعة. جاءت النظارات الذكية بوعد مختلف: ارفع رأسك، سر في الشارع، واترك المعلومة تأتيك بهدوء. فكرة جذابة، لكنها منذ بدايتها حملت ارتباكاً إنسانياً أكثر من كونها مشكلة تقنية.
حين ظهرت نظارات جوجل قبل أكثر من عقد، لم أكن استثناءً من فضول المرحلة. اقتنيت إحداها بدافع التجربة، وبقناعة أن من يكتب عن التقنية عليه أن يلمسها قبل أن يحكم عليها. بدت الفكرة آنذاك واعدة، بل جريئة. لكن المشكلة لم تكن في ضعفها التقني، بل في أثرها الإنساني. فجأة صار الوجه شاشة، والعين كاميرا محتملة، والشارع مساحة ارتباك صامت. لم تكن الإشكالية في الزجاج نفسه، بل في الإحساس الذي تركه. الناس لم تشعر بالراحة؛ فالمكان العام له «حرمة»، والخصوصية ليست نصاً قانونياً يُقرأ، بل شعوراً داخلياً يُحسّ.
مرت السنوات، وتعلمت الشركات الدرس. لم تعد النظارات الذكية تعدنا بعالم افتراضي كامل، ولا بتغيير جذري في الحياة. عادت بهدوء، أخف وزناً، أقل استعراضاً، وأكثر تواضعاً. صارت أقرب لفكرة «المرافق» لا «البديل». تهمس بدل أن تصرخ، وتدلّ بدل أن تفرض.
وهنا، في مدن مثل المحرّق، يتضح الفرق. فالمكان ليس مجرد شوارع، بل ذاكرة. الأزقة تحمل أصواتاً قديمة، والبيوت تروي قصصاً، والبحر حاضر حتى لو غاب عن النظر. تمشي في الفرجان، فتقودك الخطوات إلى مجلسٍ عتيقٍ أو بيتٍ تفوح منه رائحة الحلوى، فتشعر أنك تعيش اللحظة لا تمرّ بها. تخيّل أن تمشي في «ليالي المحرّق»، فتأتيك معلومة خفيفة عن بيت لؤلؤي أو حكاية تاجر، دون أن تُنتزع من اللحظة. التقنية هنا لا تنافس التراث، بل تسانده، مثل «الفنر» الصغير الذي ينير ولا يطغى.
لكن السؤال الأهم يبقى: هل تساعدنا هذه النظارات على رؤية العالم.. أم تضيف طبقة بيننا وبينه؟ في السواقة مثلاً، هل الإرشاد أمام العين أمان إضافي، أم تشتيت مغلف بالذكاء؟ وفي الترجمة، هل تسهّل التواصل، أم تقتل متعة المحاولة؟ التقنية دائماً تمنح، لكنها في المقابل تطلب شيئاً من انتباهنا.
ما تغيّر اليوم هو وعي المطوّرين بأن الإنسان لا يريد جهازاً جديداً بقدر ما يريد شعوراً بالطمأنينة. يريد أن يشعر أن التقنية تفهم إيقاعه، وتحترم حدوده، ولا تزاحم حضوره. لذلك لم تعد المشكلة في البطارية أو الكاميرا، بل في السؤال الأعمق: متى تتدخل التقنية، ومتى تنسحب؟
قد لا تكون النظارات الذكية، كما نعرفها اليوم، هي نهاية الطريق، لكنها بلا شك بداية لمسار جديد. فالفكرة باقية، تتغير أشكالها وتقترب أكثر من الإنسان. والتقنية التي تستمر هي التي تعرف كيف تكون خفيفة على القلب قبل أن تكون ذكية. وفي بلدٍ يعرف قيمة الجلسة، ودفء «السالفة»، وحضور الإنسان، لا مكان لتقنية تنسينا أن ننظر حولنا... ونبتسم.
* خبير تقني