أتت القمة السادسة والأربعون لمجلس التعاون الخليجي في مملكة البحرين لتضيف حلقة جديدة إلى سلسلة طويلة من الاجتماعات التي شكّلت عبر أكثر من أربعة عقود، أحد أهم الأطر الإقليمية في العالم العربي. غير أنّ هذه القمة تحديداً تحمل ملامح تاريخية خاصة، لأنها تعقد في لحظة تحوّلات عميقة إقليمياً ودولياً، ولأنّ بيانها الختامي يكشف عن انتقال تدريجي من منطق التنسيق المرحلي إلى منطق البناء المؤسسي طويل الأمد.
منذ تأسيس مجلس التعاون عام 1981، ظلّ السؤال المركزي هو: إلى أي مدى يمكن للدول الخليجية أن تتحرك من «تعاون» إلى شكلٍ ما من أشكال «الاتحاد» أو الكيان الأشد تماسكاً؟ قرار القمّة بالاستمرار في بحث الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وتكليف الهيئات المختصة باستكمال الإجراءات، يضع هذه الدورة في امتداد مباشر لفكرة بدت اليوم أكثر إلحاحاً في ظل التكتّلات الاقتصادية الكبرى والتحوّلات الأمنية المتسارعة.
اللافت في بيان القمة هو البُعد الاقتصادي حيث التركيز الواضح على استكمال متطلبات الوحدة الاقتصادية: من الاتحاد الجمركي، إلى منصة تبادل البيانات الجمركية، إلى تنظيم تجارة الخدمات وآليات الاعتراف المتبادل بالمؤهلات المهنية. تاريخياً، عرف الخليج العربي وحدة اقتصادية غير رسمية بحكم الجغرافيا ومسارات التجارة التقليدية، إلّا أنّ القمم المعاصرة تحاول نقل هذا الواقع من مستوى العفوية إلى مستوى التشريع والمؤسسات، بحيث لا يبقى التكامل الاقتصادي مجرّد نتيجة طبيعية للجوار، بل يتحول إلى هدفٍ مصاغ بلغة خطط زمنية وبرامج تنفيذية.
من زاوية التاريخ السياسي، يمكن قراءة هذه القمّة كحلقة وسطى بين مرحلتين: مرحلة التركيز على تجاوز الأزمات، من خلال التأكيد على البُعد الأمني ووحدة الموقف السياسي، وتجديد رفض الاعتداءات، والتأكيد على مبادئ الدفاع المشترك ووحدة المصير. ومرحلة السعي لصناعة الدور، فقد واجهت دول المجلس في العقود الماضية حروباً إقليمية، وتحولات في أسعار الطاقة، وتحديات أمنية عابرة للحدود، من هنا جاء بيان المجلس ليقدّم صورة متصاعدة ودوراً فاعلاً حيث التركيز على وضع حلول واقعية لقضايا أمنية وسياسية على مستوى العربي والدولي، علاوةً على وضع استراتيجيات وخطط بما يتعلق بالطاقة العالمية، وتغير المناخ، والاقتصاد الدائري للكربون.
على المستوى الداخلي الخليجي، تشهد القمّة أيضاً استمرار ترسيخ فكرة «الأمن الجماعي»، ليس فقط في بُعدها العسكري، بل في أبعادها القانونية والقضائية والحوكمة. الإشادة بالمؤتمر الخليجي لمستقبل التعاون القضائي، وإنشاء هيئة للطيران المدني الخليجي، وتطوير منظومات مكافحة الفساد وغسل الأموال، كلها خطوات تؤشر إلى انتقال المنطقة من مرحلة التعاون بين الدول إلى مرحلة «الاتحاد الخليجي»، التي تجعل من القرارات المشتركة والمصير المشترك جزءاً من البنية اليومية لحياة الناس.
الاستثنائي في هذه الدورة أنّ مملكة البحرين لا تستضيف القمّة فحسب، بل تتقدّم بمبادرات ذات طابع بنيوي: من برنامج عمل حكومي خلال فترة الرئاسة، إلى تدشين محكمة تجارية دولية، إلى استضافة أحداث رياضية كبرى مثل دورة الألعاب الآسيوية للشباب. تاريخياً، لعبت البحرين أدواراً مهمة في التجارة والإعلام العربي، واليوم تواصل ذلك الدور في صيغة جديدة، بوصفها منصة لتقديم نماذج متقدمة في العدالة التجارية والتعايش السلمي والرياضة العابرة للحدود.
في البُعد الرمزي، يمكن اعتبار هذه القمّة توثيقاً لمرحلة انتقالية في صورة الخليج العربي نفسه. فبعد أن كان يُقدَّم غالباً بوصفه فضاءً نفطياً يعتمد على مورد واحد، نرى في البيان إشارات متكررة إلى الطاقة المتجددة، والهيدروجين النظيف، والتكنولوجيا المرتبطة بالاستدامة، وإلى أدوار خليجية متزايدة في ملفات المياه والغذاء والبيئة. هذا التحول في الخطاب يعكس تحوّلاً في تصوّر الذات: من «منتِج طاقة تقليدية» إلى «فاعل في تحولات الطاقة العالمية».
ومن زاوية التاريخ الأوسع للمنطقة، يشكّل البيان وثيقة ذات أهمية للباحثين مستقبلاً، لأنه يجمع في نص واحد مواقف دول المجلس من سلسلة أزمات ممتدة، هذا التراكم من الملفات يعكس كيف انتقل الخليج العربي من موقع المتفرج إلى موقع الوسيط والفاعل، عبر الوساطات، واتفاقات تبادل الأسرى، ومبادرات إعادة الإعمار، والتحالفات المالية لدعم استقرار الدول والشعوب.
في الختام، تبدو القمة الخليجية 2025 أكثر من اجتماع دوري؛ هي محطة تاريخية توثّق لحظة تشكّل جديد في هوية مجلس التعاون. حيث أكّدت موقف جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه في ترسيخ الوحدة والّلحمة الخليجية، وترسيخ ثوابت مجلس التعاون ووحدة المصير والأمن المشترك، من هنا يمكن القول بأنّ قمة مجلس التعاون الخليجي في مملكة البحرين ستمثل أهم المحطات المفصلية التي انتقل فيها الخليج العربيّ من مرحلة ردّ الفعل إلى مرحلة صناعة الفعل.