يحدث أحياناً أن تأتي التجارب المهمة بهدوء، دون ضجيج يسبقها أو توقعات كبيرة تُحيط بها، هكذا بدأت علاقتي بالبرنامج التدريبي لبودكاست الشباب العربي الذي ينظّمه مركز الشباب العربي، لقد كان الأمر انتقالاً إلى مساحة جديدة واقتراباً مختلفاً من فكرة الصوت نفسها، من معناه، ومن موقعه في زمن تتكاثر فيه المنصات وتضيق فيه المسافة بين القول والمسؤولية، ومنذ الأيام الأولى، بدا واضحاً أن التجربة تمضي أبعد من تعلّم أداة أو صقل مهارة، وتتجه نحو اختبار أعمق لما يمكن أن يقوله الصوت، وللكيفية التي يحمل بها صاحبه أثره الثقافي والإنساني قبل أن يصبح حضوراً إعلامياً.
التجربة التدريبية امتدّت لثلاثة أسابيع مكثفة، وجرت بالكامل عن بُعد، وهو تحدٍّ حقيقي في حد ذاته، فالمسافة الجغرافية، واختلاف التوقيت بين المشاركين من مختلف الدول العربية، فرضت جهداً إضافياً في التنظيم والمقاربة، مع ذلك، تكيّف المدربون والمجموعة مع هذا الواقع، وتحول البُعد إلى مساحة مرنة للتعلّم والتفاعل، وكان على القائمين على البرنامج ضبط الإيقاع الزمني بدقة، وموازنة الحضور الذهني مع الإرهاق اليومي، حتى يصبح اللقاء الافتراضي مساحة إنتاج حقيقية، كما أن النقاشات تجاوزت الجوانب التقنية للصوت، وذهبت نحو أسئلة السرد، ومسؤولية التأثير، وكيف يمكن للبودكاست الصوتي أن يؤدي دوره بوصفه مساحة تفكير وحوار، قادرة على إنتاج محتوى يحمل عمقاً ويترك أثره.
ضمن متطلبات البرنامج، طُلب من كل مشارك تسجيل نص قصير يعرّف فيه المجتمع الذي ينتمي إليه، تمرين بسيط في شكله، عميق في جوهره، في تلك اللحظة، عادت المنامة إلى ذهني مباشرة، ليس بوصفها مدينة أو عاصمة، وإنما كصورة مكثفة للمجتمع البحريني كما أراه وأعيشه، فالمنامة عندي هي إحساس بالحركة بين ناس مختلفين ومتقاربين في الوقت نفسه، مشهد السوق بأصواته، وتجاور الأذان مع أجراس الكنائس، والدكاكين المتلاصقة التي يجمع أصحابها سلام قديم، هي رائحة بحر ونخل، وذاكرة تعب وغوص، وشعور بأن المكان يعرفك ويمنحك طمأنينة الانتماء وسط هذا التنوع.
عند عرض التسجيل في حفل ختام البرنامج، تحوّل الصوت الفردي إلى مساحة مشاركة، لحظة شخصية وجدت صداها لدى الآخرين، خصوصاً مع وجود مشاركين من ست عشرة دولة عربية، لقاء الأصدقاء العرب كشف عن اختلاف جميل في التجارب والسرديات، وعن تقاطعات إنسانية عميقة، فكل واحد جاء بمدينته ولهجته وذاكرته، والتعارف بيننا فتح باباً لفهم أوسع لمعنى المجتمع في السياق العربي، بعيداً عن القوالب الجاهزة.
حفل الختام حمل بُعداً إضافياً مع التكريم الذي جرى بحضور معالي الشيخ عبدالله بن محمد بن بطي آل حامد، رئيس المكتب الوطني للإعلام ورئيس مجلس الإمارات للإعلام، رئيس قمة بريدج، ومعالي الدكتور سلطان بن سيف النيادي، وزير دولة لشؤون الشباب في دولة الإمارات العربية المتحدة، ونائب رئيس مركز الشباب العربي، في تلك اللحظة، اتّسعت التجربة من إطارها التدريبي إلى أفق أوسع، أفق يربط ما نعمل عليه بمشهد إقليمي وعالمي يُعيد التفكير في دور الإعلام وصناعة المحتوى.
من هنا كان الانتقال طبيعياً إلى قمة «بريدج 2025»، التي احتضنت تخريجنا، أعطته زخماً أكبر، فالقمة قدّمت تصوراً لمنظومة إعلامية جديدة، تفتح المجال أمام مستقبل السرد الإنساني، وتنظيم الذكاء الاصطناعي، وصناعة محتوى أكثر وعياً بسياقه وتأثيره، حتى على مستوى التجربة الرقمية، عكس تطبيق القمة حجم التفاعل، وأظهر كيف يمكن للمنصات الذكية أن تحوّل الفعالية إلى مساحة تواصل حيّة بين المشاركين.
وسط هذا الزخم، برز دور مركز الشباب العربي بوصفه نموذجاً للاستثمار في طاقات الشباب، اختتام النسخة الرابعة من برنامج بودكاست الشباب العربي ضمن القمة أكد أن بناء الأصوات الشابة مسار متصل، يقوم على التدريب الجاد، وفتح المساحات، وربط التجربة المحلية بالمنصات العالمية، وهذا برنامج واحد من برامج كثيرة متعددة ومتخصّصة يُقيمها المركز على مدار العام.
في ختام هذه الرحلة، يظل الشكر واجباً لمركز الشباب العربي على إتاحة هذه الفرصة، وللأخت ريهام على جهدها الكبير في تنسيق البرنامج وإدارته، ودقتها في التفاصيل، وحرصها على خلق بيئة عمل مهنية وإنسانية متوازنة، ويمتد الامتنان إلى المدربين الذين شاركونا خبراتهم، وفتحوا أمامنا آفاقاً جديدة لفهم السرد الصوتي ومسؤوليته، كما أحمل في قلبي شكراً خاصاً للمشاركين الذين جمعتنا بهم التجربة، وألّفت بيننا المسافات، فشعرنا بقرب إنساني يشبه معرفة قديمة، وبأن ما جمعنا تجاوز إطار البرنامج إلى علاقة مبنية على الودّ، والثقة، والاهتمام المشترك بالصوت والمعنى.