في هذه الأيام التي تغيّر فيها الجو فجأة، ومع أمطار متواصلة غيّرت مزاج النهار، قررت الخروج مع أبنائي في منتصف الظهيرة. الغيوم غطّت السماء، والحرارة انخفضت، وكأن الجو يقدّم اعتذاراً متأخراً عن صيف طويل. فخرجنا نمشي في المحرق، على مقربة من طريق اللؤلؤ، حيث تعيد ليالي المحرق ترتيب العلاقة بين الناس والمكان. كنا نمشي بهدوء، وأحكي لهم عن بيوت قديمة، ودواعيس حفظتها الذاكرة أكثر مما حفظتها الخرائط.

وأنا أروي لهم القصص، وألتقط لهم صوراً أحاول فيها تثبيت اللحظة كما هي، انتبهت إلى شيء غريب: كثير مما أقوله ليس دقيقاً تماماً، وبعضه ربما تغيّر مع الزمن. ومع ذلك، القصة كانت تعمل. الأولاد يسمعون، يتخيلون، ويبتسمون. هنا أدركت أن الذاكرة البشرية لا تعمل كجهاز تسجيل، بل ككائن حي: تنتقي، تلخّص، وتنسى.

في المقابل، نحن نعيش اليوم مع نوع جديد من الذاكرة: ذاكرة رقمية لا تنسى. هواتفنا، تطبيقاتنا، والأنظمة الذكية التي نتعامل معها يومياً تتذكر كل شيء. ماذا بحثنا، ماذا اشترينا، متى تذمرنا، وحتى الجمل التي كتبناها على عجل. هذه الذاكرة ليست إنسانية، لكنها فعّالة. وهي أساس كثير من التقنيات الحديثة التي نسمع عنها اليوم تحت مسمى “الذكاء الاصطناعي».

من الناحية التقنية، معظم الأنظمة الذكية لا «تفهم» مثلنا، لكنها تتذكر بطريقة مختلفة. يتم تحويل الكلمات والتجارب إلى أرقام، وتُخزَّن في قواعد بيانات متقدمة تسمح للنظام باسترجاع المعنى لا الكلمة فقط. لذلك، عندما تتحدث مع مساعد ذكي ويتذكر تفضيلاتك، أو يقترح عليك حلاً سبق أن نفعك، فذلك لأنه يملك ما يُسمّى «ذاكرة سياقية» مبنية على بيانات سابقة.

هذه التقنية لها فوائد حقيقية. في الخدمات الحكومية، يمكن للأنظمة الذكية أن تتذكر شكوى سابقة وتربطها بأخرى، فتتحول من مجرد استقبال بلاغات إلى فهم أنماط المشاكل. في البنوك، يمكنها تذكّر لغة العميل، ومرحلة تعامله، وتقديم خدمة أكثر دقة وأقل تكراراً. حتى في حياتنا اليومية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يخفف عنّا عبء التذكر، من المواعيد إلى التفاصيل الصغيرة.

لكن، وهنا المفارقة، هذه الذاكرة التقنية لا تعرف ما الذي يستحق البقاء وما الذي يجب أن يُنسى. تحفظ كل شيء بالدرجة نفسها. لا تفرّق بين زلة عابرة وتجربة مصيرية. بينما نحن، كبشر، نملك مهارة النسيان كآلية حماية، نترك التفاصيل غير المهمة للزمن، ونحتفظ بالمعنى.

وأنا أمشي في ليالي المحرق، شعرت أن المكان نفسه يقدّم درساً تقنياً عميقاً دون شاشات ولا مصطلحات. الجدران لا تروي كل ما حدث، لكنها تروي ما يكفي. لا تحفظ الضجيج، بل الأثر. وهذا بالضبط ما نحتاج أن نتعلمه ونحن نبني أنظمة ذكية: أن الذاكرة ليست في كثرة التخزين، بل في حسن الاختيار.

التكنولوجيا أداة قوية، ويمكنها أن تجعل حياتنا أسهل وأكثر كفاءة. لكنها تحتاج إلى أن تُصمَّم بوعي إنساني، يعرف متى يتذكر، ومتى يسمح بالنسيان. لأن المستقبل الذكي الحقيقي ليس ذاك الذي يعرف كل شيء، بل ذاك الذي يعرف ما الذي يستحق أن يبقى.في النهاية، ونحن نكمل طريقنا عائدين إلى البيت، أدركت أن العلاقة بين التقنية والذاكرة تشبه علاقتنا بالمكان: نحتاجه لنعرف من نحن، لكننا لا نحتاج أن نحمل كل حجر معنا لنواصل السير.

* خبير تقني