تخيّل شخصين يعيشان في البحرين: الأول يحجز موعداً لتجديد البطاقة السكانية خلال دقيقتين عبر تطبيق ذكي، والثاني لا يزال يتصل برقم الاستعلامات منتظراً الرد. الفارق هنا لا يتعلق بالذكاء، بل بما يُعرف اليوم بـ«رأس المال الرقمي»؛ ذلك المفهوم الذي يصف امتلاك المهارات الرقمية والقدرة العملية على استخدام التكنولوجيا في الحياة اليومية والعمل والتعليم.
يرتبط رأس المال الرقمي بدرجة الوصول إلى الأدوات التقنية، مثل الهاتف الذكي والإنترنت، وبالقدرة على توظيفها بكفاءة: من التعلم عن بُعد، ودفع الفواتير، إلى إدارة الحسابات المهنية وبناء الشبكات الوظيفية. من يعرف كيف يستخدم منصات مثل LinkedIn يصل إلى فرص العمل أسرع ممن يعتمد على الطرق التقليدية. والأمر ذاته ينطبق على التعليم؛ فطالب يمتلك جهازاً لوحياً واتصالاً جيداً بالإنترنت يمكنه حضور محاضرة من جامعة عالمية قبل الإفطار، بينما يظل غيره عالقاً في البحث عن «فلاشة» ضائعة.
لم يعد سوق العمل يقيس الكفاءة بالشهادات وحدها، بل بمدى إتقان الأدوات الرقمية. الريادة انتقلت إلى الهاتف والشاشة، وأصبحت الشاشات والواقع الافتراضي يساعدان الإنسان على زيارة أماكن سياحية عديدة حول العالم وهو جالس في غرفة نومه، والعمل الحر أصبح مصدر دخل حقيقياً، والعمل من المنزل لم يعد حلماً مؤجلاً. التسويق، وإدارة المتاجر، وبناء العلامات الشخصية أصبحت مهارات مطلوبة، ومن يفتقر إلى رأس مال رقمي حقيقي عليه أن يسرع ويلحق بركب التدريب العاجل واغتنام فرص التعلم.
تتسابق الدول اليوم لتكون عواصم رقمية، تستثمر في البنية التحتية والمنصات والخدمات الذكية. لكن النجاح الحقيقي لا يُقاس بعدد التطبيقات، بل بعدد المستخدمين القادرين على توظيفها بوعي. فرأس المال الرقمي لا يُبنى بتنزيل برنامج، بل بثقافة، وتدريب، وتحويل المهارة إلى فرصة. وفي عالم اليوم، من لا حضور له رقمياً، كمن يفتح متجراً في قلب الصحراء فوق قمة جبل الدخان وبدون لافتة تعريفية.
في سياق ذلك سعت البحرين منذ وقت مضى لتأكيد موقعها كإحدى الدول الرائدة إقليمياً في رأس المال الرقمي، لا سيما أنها قطعت شوطاً متقدماً في التحول الرقمي والابتكار الحكومي. فالمنصات الحكومية الموحدة، والخدمات الإلكترونية، وانتشار الدفع الرقمي، وتطور البنية التحتية للاتصالات، كلها مؤشرات على إدراك حكومي مبكر لأهمية الاقتصاد الرقمي كرافعة للنمو. حيث وفرت الحكومة التقنية، ووضعت سياسات تسريع تحويلها إلى رأس مال بشري منتج، عبر الاستثمار المكثف في المهارات الرقمية، وربط التعليم بسوق العمل الذكي، وتحويل المستخدم من متلقٍ للخدمة إلى صانع للقيمة الرقمية. حتى صار الابتكار ورأس المال الرقمي محوراً صريحاً للاقتصاد الوطني البحريني، ومرتكزاً أساسياً، برعاية مباشرة من جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، ومن خلال سياسات الحكومة ينال توجيهاً مباشراً من سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله.
فاقتصاد التطبيقات، والعمل الحر، والتجارة الإلكترونية، وريادة الأعمال الرقمية، تمثل مصادر دخل حقيقية وقابلة للنمو السريع، خاصة في البحرين كدولة تتسم بصغر المساحة والمرونة العالية، وتلك سمات ساعدتها على سرعة تفعيل آليات التحول، والتي منها دعم الحاضنات الرقمية، وتوسيع برامج التدريب المجاني، وتمكين الشباب والنساء من بناء أعمال رقمية مستدامة، وكلها آليات نترجم مباشرة إلى فرص عمل، وزيادة إنتاجية، وتنويع مصادر الدخل.
إن الدول التي سبقت في هذا المجال لم تفعل ذلك بكثرة الأجهزة أو بكبر مساحتها وبأعداد سكانها، بل بكثافة المهارات وحسن إدارة رأس المال الرقمي لديها، لذلك من يحسن استثمار رأس ماله الرقمي اليوم، يضمن موقعه المتقدم والمؤثر في اقتصاد الغد.
* دكتوراه في الإعلام الرقمي