عبر عقود من عملي في الميدان الإنساني والتنموي، ترسخت لدي قناعة لا تتبدل: أن «الإغاثة» قد تحفظ الحياة ليوم، لكن «التنمية» تصنع الحياة وتؤمن المستقبل لقرن، ولطالما كان التحدي الأكبر أمامنا هو الانتقال من «العطاء الرعوي» الذي يسد رمقاً آنياً، إلى «الاستثمار الاستراتيجي» الذي يغير مصير الفرد والمجتمع جذرياً، اليوم، نجد الإجابة النموذجية تتجسد في «وقف عيسى بن سلمان التعليمي الخيري»، الذي جاء تأسيسه بإرادة ملكية سامية من لدن سيدي حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم، ليكون منارةً للعمل المؤسسي المستدام.
إن القراءة المتأنية لمسيرة هذا الوقف، بقيادة سمو الشيخ عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة، تكشف لنا أننا أمام تجربة وطنية فريدة، تستلهم فكر التحديث والتطوير من مدرسة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، حفظه الله.
هذا الفكر الذي لا يرى في العمل الخيري مجرد «منح ومساعدات»، بل يراه «هندسة اجتماعية» دقيقة تهدف إلى تمكين الكفاءات الوطنية وصناعة قادة المستقبل.
إننا نشهد اليوم «الجيل الثالث» من العمل الأهلي في مملكة البحرين؛ جيل تجاوز المفاهيم التقليدية، لينطلق نحو الهدف الأسمى: «الاستثمار في رأس المال البشري».
ففلسفة الوقف هنا تعيد تعريف الموروث الإسلامي العريق بروح العصر؛ حيث الأصل الوقفي ليس المال فحسب، بل هو «الطالب المتميز»، والمنفعة المستهدفة ليست المعونة المادية، بل هي «العلم النوعي» الذي يدر عائداً اجتماعياً وتنموياً لا ينقطع على الوطن.
ما يميز هذه المنظومة هو ترسيخها لمبدأ «الجدارة والاستحقاق» كمعيار وحيد للدعم، وهو جوهر العدالة التي ينشدها المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المعظم.
فعندما يفتح الوقف أبواب أرقى الجامعات العالمية والتخصصات الدقيقة (كالطب والهندسة) لأبناء الأسر المتعففة استناداً لمعيار التفوق فقط، فإنه بذلك يخلق حراكاً اجتماعياً راقياً، ويكسر الحواجز المادية، مؤكداً أن في البحرين، الاجتهاد هو العملة الوحيدة للصعود، وأن الفرص العظيمة هي حق أصيل للعقول المبدعة.
ومن منظور التخطيط الاستراتيجي، يُحسب لهذا الوقف أنه يعمل بتناغم تام مع الرؤى الوطنية التي يقودها صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، حيث يقوم بملء «الفجوات المهارية» بدلاً من مجرد ملء «المقاعد الجامعية».
نحن أمام مواءمة ذكية بين مخرجات القطاع الخيري واحتياجات التنمية الشاملة، مما يحول الطالب من متلقٍ للمساعدة إلى كادر وطني يساهم بفاعلية في بناء اقتصاد المعرفة.
ولا يتوقف الأمر عند حدود الهياكل والاستراتيجيات؛ فخلف كل رقم في تقارير الوقف تكمن قصةُ «حلمٍ» تحول إلى حقيقة، ومصير عائلة تغير للأفضل.
ونحن اليوم أحوج ما نكون لهذا النموذج، في عالم يتسابق نحو الذكاء الاصطناعي وعلوم المستقبل المعقدة التي تتطلب تعليماً نوعياً باهظ التكلفة. لذا، فإن هذا الوقف لا يقدم مجرد «منحة دراسية»، بل يمنح البحرين «درعاً معرفياً» حصيناً، وكفاءاتٍ قادرة على حجز مكانة متقدمة للمملكة في خارطة الاقتصاد العالمي الجديد.
همسة
إن «وقف عيسى بن سلمان التعليمي الخيري» يتجاوز كونه تخليداً لذكرى باني البحرين الحديثة، المغفور له بإذن الله الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، طيب الله ثراه؛ إنه تجسيدٌ لمفهوم «الصدقة الجارية» في أبلغ صورها وأدومها أثراً، فكل طبيب يُعالج، وكل مهندس يبني بفضل هذا الوقف، هو نهرٌ من الحسنات يتدفق في ميزان الراحل الكبير، وشاهدٌ حي على الرؤية الملكية السامية التي تؤمن بأن أعظم مواردنا وأغلاها هو «الإنسان».
إنه استثمار استراتيجي في «النفط الذي لا ينضب»: عقول أبناء البحرين، ورسالة مفادها أن الوفاء للماضي لا يكون إلا بصناعة المستقبل المشرق.