الأسبوع الماضي، لم يكن البرد مجرّد حالة جوية عابرة، ولا المطر خبراً عابراً في نشرة الطقس. كان أسبوعاً مختلفاً، ثقيل الإحساس، حين هطلت الأمطار في فترات كانت شديدة وغزيرة على بعض المناطق، وحين انخفضت درجات الحرارة إلى مستوى لامست فيه «المحسوسة» دون العشر د رجات.

عندها تغيّر إيقاع البيوت، ودخل كثير من الآباء والأمهات في حالة استنفار طبيعي، بحثاً عن الدفء والطمأنينة، وحرصاً على راحة الأبناء وكبار السن. رأينا بيوتاً تسربت إليها المياه، وأعمالاً تعطلت، وأشخاصاً لم يتمكنوا من الحضور إلى وظائفهم، وآخرين عاشوا القلق خوفاً من عارض صحي قد يصيب أحد أفراد الأسرة. لا أدري كيف يمكن وصف ذلك الشعور، لكنه واقعي، وإنساني، ومنطقي، فربّ الأسرة، بل أي إنسان، لا يملك ترف اللامبالاة حين يتعلق الأمر بأمن عائلته وسلامتهم. هو خوف مشروع، وحرص فطري، ومسؤولية لا يمكن الهروب منها.

ومع ذلك، ونحن نعيش هذا «الظرف الصعب» الذي دفعنا للحديث عن الطوارئ والاستعداد، ولو لساعات أو ليوم، كان في مكان آخر من هذا العالم من يواجه برداً أقسى، وسيولاً أعتى، وواقعاً أشد قسوة.

هناك، في غزة، حيث الإخوة في الدم والدين، لا خيام تحمي من المطر، ولا بنية تحتية تخفف وطأة البرد، ولا مؤسسات تستنفر قبل التوقعات الجوية، ولا بيوت من طوب وحديد، ولا شبكات صرف صحي تمتد من شمال المكان إلى جنوبه. أبناء غزة لا يعانون أسبوعاً من البرد، بل موسماً دائماً من الألم. يعانون في الصيف والشتاء، من الجوع والعطش والمرض، ومن فقد الأبناء تحت وطأة البرد أو القصف. ومع ذلك، لا تسمع منهم تذمراً، ولا شكوى على سبيل السخط، بل حمداً لله وصبراً يحيّر العقول.

كل دعواهم أن يقف إخوتهم معهم، وأن يجدوا نصرة وعدلاً، لا شفقة عابرة ولا تعاطفاً مؤقتاً. كأن حالهم يردد دعاء الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس.. إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي». دعاء يختصر حال أمة، ويضع الإنسان أمام ميزان حقيقي للألم والنعمة معاً. اليوم، نحن نعيش في نعمة وأمن ورفاهية، قد لا يحمد الله عليها كثيرون كما ينبغي، وقد لا يلتفت البعض إلى حال غيرنا ممن لا يمكن مقارنته بحالنا. وهذه ليست دعوة لتقليل مخاوفنا، ولا لإنكار إنسانيتنا، بل دعوة صادقة لمراجعة النفس، أن نشكر الله أولاً، وأن ندرك حجم ما نحن فيه من أمان، وأن نشكر قيادتنا على هذا الاستقرار الذي جعل «أسبوع البرد والمطر» حدثاً عابراً، لا مأساة مستمرة.

هي دعوة للامتنان، قبل أن تكون دعوة للكلام، وللوعي، قبل أن تكون مقارنة. ففي عالم يمتلئ بالبرد الحقيقي، يظل الدفء نعمة، ويظل الشكر واجباً. وربما يكون أقل ما يمكن أن نفعله أمام هذا المشهد، ألا نشتكي كثيراً، وألا ننسى كثيراً، وألا نغفل عن حقيقة أن هناك من يتمنى مجرد ما نعدّه نحن أمراً عادياً.