في عام 2020، توفيت سيدة أمريكية تُدعى دورا في شقتها بلوس أنجلوس، وبقيت على كرسيها ثلاثة أعوام كاملة دون أن يلاحظ أحد اختفاءها، ولا حتى جيرانها، ولا أهل الشارع، ولا من معها في العمل، لأن دورا كانت «تشتغل من البيت» و«تتواصل أونلاين» وعندها «شبكة أصدقاء» على السوشيال ميديا لا تقل عن ألف متابع، القصة ليست غريبة وليست نادرة لأن ظروف الوفاة هذه يشترك فيها كثير من البشر، لاسيما في الدول الغربية التي تضعف فيها الأواصر العائلية.
المقلق في الموضوع أن ما كان يحصل في مجتمعات غير مجتمعاتنا ربما سيحصل في مجتمعنا خلال السنوات القادمة، ليس لأن الأواصر العائلية لدينا تتجه نحو الضعف، لكن طبيعة علاقاتنا الاجتماعية تغيرت وتحديداً عند الأجيال الجديدة، ثلاثة أعوام ماتت فيها دورا رسمياً، لكنها بقيت حيّة رقمياً، بفضل الذكريات التلقائية والمنشورات المؤجلة، والناس الذين كانوا يتذكرونها من حين لآخر ويكتبون لها تعليقات من نوع «من طوّل الغيبات جاب الغنايم»، هم في الواقع لم يفتقدوها باعتبارها إنساناً إنما افتقدوا ضحكتها الرقمية، وهنا يبرز سؤال، كيف تموت امرأة في زمن التواصل الاجتماعي دون أن يلاحظ أحد؟ لكن السؤال الصحيح هو، هل نحن متواصلون فعلاً؟ كل يوم نتفاعل مع أشخاص، نضحك معهم، نعمل لهم «لايك» ونكتب لهم «فديتك»، لكن لا نعرف عنهم أي شيء، ولا هم يعرفون عنا شيئاً، وأنت تقرأ هذه العبارات ممكن يكون لديك على هاتفك 600 اسم، لكنك لا تستطيع الاتصال بأي منهم عندما تكون بحاجة لسماع صوت يرد عليك، فهل نحن متواصلون فعلاً؟ أصبحنا محترفين في التواصل السريع، لكننا عاجزون عن بناء علاقة اجتماعية، تَواصُلنا يبدأ بتفاعل وينتهي بحظر، نلتقي ببعضنا عن طريق القصص اليومية (ستوري) عندما نشتاق لأحد بدل أن نتصل به أو نلتقي به فعلياً، صرنا ندخل إلى حسابه ونطّلع على صوره، العلاقات الاجتماعية باتت تشبه الحفلات أونلاين، فيها ناس ترقص، وناس تصور، وناس تعمل «فولو» لبعض، لكن لا أحد يسمع أحداً، ولا أحد يشعر بأحد.
التكنولوجيا قرّبت البعيد، هذا أمر لا ينكر، لكنها لم تجعله في موضع القريب الفعلي إنما وضعته في منزلة جديدة لم تكن موجودة سابقاً، والسيئ أنها أخذت القريب ووضعته في المنزلة ذاتها، أصبح هناك انفجار في المجاملات، لكنه على الشاشات، وخلفها هناك جفاف عاطفي، العلاقات الاجتماعية أصبحت تشبه الرصيد، كلما تقرب تخلص، الجيل الجديد لا يفكر في بنائها، وجيلنا يعيش على إرثه من العلاقات ولا يجددها، والنتيجة أننا في تواصل بدون صلة.
* عميد كلية القانون –
الجامعة الخليجية