بينما كنتُ أتصَفّح بعض الاقتباسات التي كنتُ أستشهد بها عبر حسابي في منصة التواصل الاجتماعي «إنستغرام»، وقع نظري على عبارة منسوبة إلى المفكّر مصطفى محمود -رحمه الله- يقول فيها: «سنةٌ واحدة فقط قد تمرّ على الإنسان، تتبدّل فيها أفكاره وشخصيّته، ويستغني عن أشياء عديدة، ويشعر أنّه كَبُر في عمره سنواتٍ طويلة».
فالمعنى هنا أنّ الزمن بحدّ ذاته ليس هو ما يُنضج فكر الإنسان وشخصيّته، بل إنّ التجارب هي التي تترك أثرها العميق في التغيير الداخلي، وقد تختصر سنةٌ واحدة ما لا تصنعه سنواتٌ طويلة بلا حراك في دروب الخير.
نحتاج بالفعل، ومع إطلالة عام 2026، أن نكون أكثر وعياً مما سبق؛ فمن علامات صدق المرء مع الله عزّ وجلّ أولاً، ومع نفسه ثانياً، ألّا تمرّ عليه تجارب الحياة، وانقضاء الأوقات والسنوات، مروراً عابراً دون اتّعاظ أو مراجعة. فالمرء في مثل هذه المواقف، إنما يوجّه نظره إلى تلك المحطات التي مرّت عليه خلال سنةٍ مضت، بل وسنواتٍ خلت، متسائلاً: ماذا أنجز؟ وماذا حقق؟ وماذا قدّم؟ وهل ارتقى إيمانيًا؟ وهل ترك أثراً إيجابياً في مواطن الحياة المختلفة؟
كلها أسئلةٌ يُفترض أن نسأل أنفسنا عنها كل يوم، فكيف إذا انقضت سنةٌ أخرى من أعمارنا، ونحن مقبلون على سنةٍ جديدة؟ لابدّ أن نكون فيها منصفين لأنفسنا، ومنصفين في عطاءات الحياة، الموصلة إلى عطاءات الآخرة.
كم مرّة خطّطنا، وكتبنا، وقرّرنا، وتناقشنا، وواعدنا وتواعدنا، وعقدنا العزم، ونهضنا بالهمم، ثم سرعان ما عدنا إلى نقطة البدء من جديد، فلم نحرّك ساكنًا، ولم نتقدّم قيد أنملة. ولو راجعنا السبب، لاكتشفنا أنّ السنة مرّت بهدوءٍ بلا حراك حقيقي ولا إنجاز يُذكر.
دعونا نرسم تلك الخطة المرجوّة، وذلك الهدف الذي لطالما سعينا إليه، وألهتنا عنه ظروف الحياة، بل وألهتنا خيوط التقاعس والتكاسل والتسويف الممل. لنكتب في ورقتنا كل ما نريد، ونرسم الخطوط والدوائر كما نحب، ونُفضفض كما نشاء، نحاكي ذواتنا، ونتحدّث مع قلوبنا النقيّة.
نكتب إنجازاتنا التي مضت، وأحلامنا التي نتمنّاها، ومشروعاتنا التي تجمّدت، ولا بأس أن ندوّن تلك الشواهد الجميلة التي حققناها منذ الصغر. وبعد أن ننتهي، نُظلّل إنجازاتنا بلون، ونُظلّل أحلامنا التي تأخرنا عنها بلونٍ آخر، ثم نضع هذه الورقة بالقرب من سريرنا الذي نرتاح فيه بعد عناء يومٍ طويل، ونصوّرها بهواتفنا؛ لتكون دستوراً، وقصّة حلمٍ جديدة، نبدأ بها عامنا الجديد 2026.
عاماً يتحدّث عن حجم التغيير الداخلي العميق، ويتحدّى نفسه بأن تكون سنته مختلفة عن تلك السنوات العجاف التي مضت، مليئةً بالتجارب والأفكار الجديدة، نُنفّذ فيها أسلوبنا الجديد بقناعاتٍ وأفكار تغيّرت جرّاء الصدامات التي مررنا بها، حتى وصلنا إلى مرحلة من النضج، نستطيع من خلالها أن نتحرّر من قيود أولئك المرضى الذين وقفوا ضدّنا مراراً وتكراراً.
سنة نكون فيها أكثر وعياً وحذراً من عراقيل الحياة، وأكثر حكمة في التعامل مع مختلف الظروف المحيطة؛ فالحكمة هي أساس النجاح فيما نسعى إليه. سنة نستغني فيها عن كل المنغّصات التي آذت قلوبنا، وشوّهت نبل مشاعرنا، وعن كل الأشخاص الذين ظننّا يوماً أنهم يعينوننا على الخير، فإذا بهم على خلاف ذلك. سنة نتحرّر فيها من كثير من القيود التي كبّلت نظرتنا الإيجابية الثاقبة للحياة.
اجعلها سنة تختصر لك المسافات، وتختصر سنوات عمرك القادمة التي لا تعلم خباياها. فخُض تجاربك دون تسويف، واستثمر فرص الحياة الآن، ونفّذ ما تتمناه دون تأخير. سنة تُحسّن فيها من «منهج الإيمان» والقرب من المولى الكريم، ومن جوانب «أثرك الإيجابي» في الحياة، ومن سعيك في حوائج الآخرين، وتُكثر فيها من رسائلك الإنسانية، التي هي أساس رقيّك في الدنيا والآخرة.
سنة تحكي قصة نجاحاتك الجديدة، التي ستكتبها في ورقةٍ أخرى؛ فكلما حققت نجاحاً أو صنعت أثراً، دوّنه لتخلّد ذكراه في نفسك، وفي وجدان الآخرين الذين قد يقرؤونه يوماً ما. اجعلها «سنة أثرٍ إيجابي جميل»، وتحدّث عن الأثر الذي تتركه في كل لحظة، ولا تعجز، ولا تملّ، ولا تتكاسل لحظة واحدة؛ فذلك من مداخل الشيطان الرجيم. واستذكر دائماً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال».
ردّد دائماً: «الحمد لله الذي اصطفاني لعمل الخير»، وحدّد هذا العمل الذي اصطفاك الله لأجله؛ فالاصطفاء نعمة وفضل من المولى الكريم، يختارك بها لتكون عوناً وأثراً في حياة غيرك، وأداةً للتغيير الذاتي المنشود. فقد اصطفاك لتكون فارساً في الميدان الإنساني، تساهم في التطوير والتغيير، وتضيف لمسات الخير في المكان الذي تعمل فيه.
فالحمد لله الذي اصطفانا لنكون سُبل هداية وإرشاد للآخرين، وسل المولى الكريم أن يجعلك فارساً شهماً في كل أيام عمرك، وفي سنةٍ جديدةٍ تُقبل عليك، تمنحك فرصةً متجددة لأنفاسك، تمضي في رحابها لتنثر ورود المحبّة بين النفوس.
ومضة أمل
عامٌ جديد، ومشروعٌ جديد، وتغييرٌ جديد في مختلف مناحي حياتك. ولعلها إشراقة أملٍ جديدة، تمحو من خلالها جوانب التقصير، وتسدّ ثغرات المزالق الشيطانية، وتبدأ خطوات التصحيح الحقيقي، الذي من خلاله تصل إلى ما تتمنّى وتصبو إليه. إنها حياة الخير، والإخلاص، والإحسان، في عامٍ ميلادي جديد. جعله المولى الكريم عام خيرٍ وبركة علينا جميعاً، وعام تغييرٍ وبهجةٍ وفرحٍ وسرور، نستبدل به أوجاع الأمس.