يشهد العالم تحولاً جذرياً في طبيعة سوق العمل والمهارات المطلوبة، فلم تعد المؤهلات العلمية التقليدية وحدها نقطة التميز في سوق العمل، بل امتد إلى ما يُعرف برأس المال الرقمي الذي يشمل المهارات التقنية والمعرفية والناعمة معاً. حيث أضحت المهارات الرقمية مثل تحليل البيانات، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، الحوسبة السحابية وبرمجة الحوسبة من المتطلبات الأساسية في معظم القطاعات، لأنها تمكّن الأفراد والمؤسسات من التكيف مع الثورة الرقمية الحالية.
تواجه نسبة عالية من الوظائف تغييرات جذرية في متطلبات المهارات، حيث من المتوقع أن تشهد 90% من الوظائف تحولات في المهارات المطلوبة خلال العقد القادم، مع بروز ما يُسمّى بالمهارات الهجينة التي تجمع بين التقنية والمهارات الإنسانية مثل التفكير النقدي والتواصل الفعال.
برز في الآونة الأخيرة ما يعرف بمفهوم اقتصاد المهارات (Skills Economy) والذي يشير إلى أن قابلية التوظيف لم تعد تُقاس فقط بالشهادات الأكاديمية، بل بالكفاءات العملية والمعرفية التي يمتلكها الفرد.
أن التحول الرقمي ليس مجرد اعتماد أدوات رقمية في مجال من مجالات الحياة إنما هو إعادة تشكيل كاملة لسير العمل وطريقة التفكير، فقد أصبحت المهارات الناعمة مثل الذكاء العاطفي وإدارة الوقت والمرونة والقدرة على التعاون والعمل الجماعي ذات أهمية متزايدة في عالم اليوم، لأنها تُكمل المهارات التقنية وتُمكّن الأفراد من التفاعل الفعّال في بيئات عمل معقدة ومتغيرة. فقد زاد الطلب على مهارات الذكاء الاصطناعي بنسبة 21% في السنوات الأخيرة، وأصبح للمهارات التقنية قيمة أعلى في سوق العمل مقارنة بالشهادات الأكاديمية في بعض التخصصات، ما يعكس بداية تفوق قيم الكفاءة على الاعتبارات التقليدية في التوظيف.
مع (كوفيد -19) وبعده، بدا التعليم بمفهومه التقليدي يتغير وقريباً سيأتي اليوم الذي لا تكون فيه المدارس والجامعات هي مصدر المعرفة الأول للإنسان إنما ستصبح مهمتها إدارة المعرفة وإصدار شهادات التخرج التي لا غني عنها للإنسان، وربما تتحول المباني الواقعية مع الوقت إلى مباني افتراضية، وربما تلجأ المدارس المهنية والتقنية إلى المعلم الخوارزمي في فصولها الدراسية مثلما فعلت مصانع السيارات والطائرات في عمليات الإنتاج وتجميع الأجزاء، وأضحى وظيفة الإنسان الرقابة والمتابعة والفحص النهائي.
لا تتعجب عزيزي.. فقد بدا هذا التوجه يخترق مجالات عديدة منها التسويق والخدمات والأعمال والصحافة والإعلام وغيرها وصارت المؤسسات التقليدية الإعلامية في ماذق مالي على المستوي العالمي نتيجة انخفاض مدخلاتها الإعلانية والتي دفعتها للتقلص والاندماج وتقليل نفقاتها، بعد أن ظلت الصحافة مدرسة الشعب الأولى لمدة تزيد على أربعة قرون، والأمر نفسه في التسويق والإعلان الإلكتروني فقد وصل دخل الإعلان الرقمي العالمي تريليون دولار في 2024، وهو رقم قياسي جديد في التاريخ الحديث لهذه الصناعة ووصل مع بدية 2025 إلى 1.08 تريليون دولار (التريليون 1000 مليار) وهذا ما جعل الإعلانات الرقمية تحصد حوالي 70–73% من إجمالي الإيرادات العالمية للإعلانات.
إن التحول الرقمي لم يعد تحدياً تقنياً فحسب، بل فرصة تاريخية لإعادة تشكيل رأس المال البشري العالمي، وبلورة اقتصاد يستند إلى الكفاءات والمهارات المستدامة، التي تجعل من الأفراد والمؤسسات جزءاً فاعلاً في مسيرة التقدم، لأن المهارات الرقمية أصبحت شبيهة بالقراءة والكتابة؛ من لا يمتلكها سيجلس في الصف الخلفي في المستقبل القريب.
* دكتوراه في الإعلام الرقمي