تستمر هذه الأيام الجميلة الباردة التي تكسو البحرين بشتاءٍ خفيفٍ محبّب، شتاء لا يقرص العظم بقدر ما يوقظ الذكريات. ومع تزامن احتفاليات ليالي المحرق، وهي تنير دواعيس المحرق في ظلمة الليل، تشعر وكأن المدينة القديمة قررت أن تفتح ألبوم صورها وتدعونا للدخول صفحة صفحة، بلا استعجال.

في إحدى هذه الليالي، كان لي موعد مع أحد أولئك الذين صاغت التقنية بيننا صداقة وحديثاً لا ينتهي عنه، طلال علي العامر، عائد لتوّه من لاس فيغاس بعد حضوره فعالية أمازون «AWS re:Invent»، أحد أكبر مؤتمرات أمازون في عالم التقنية، والذي يُقام عادة في نهاية كل عام. عاد محمّلاً بحكايات عن الذكاء الاصطناعي، والأنظمة الذكية، وأشياء تُدار بأمر صوتي ونظرة عين.. لكنه، كعادة البحرينيين، ما إن لامست قدماه أرض الوطن حتى غلبه الحنين، وكان اللقاء في دواعيس المحرق، لا في مقهى عصري ولا في صالة فخمة.

نمشي بين البيوت المتلاصقة، والجدران التي تحفظ أسرار عشرات السنين، والبرد يخفّف حدته كوب شاي ساخن يُمسك بكلتا اليدين. هنا، لا تحتاج إلى سماعات ذكية لتشعر بالدفء، ولا إلى شاشة لتعرف الاتجاه؛ يكفي أن تتبع الضوء والصوت والناس.

بدأ طلال يحكي عن آخر ما رآه هناك: وكلاء أذكياء «AI Agents» لا يكتفون بالإجابة، بل يتصرّفون، ينفّذون، يتابعون، ويتنبّهون قبل أن تتنبّه أنت. يضحك ويقول: «تخيّل لو واحد منهم معنا الحين”. أنظر حولي.. الأزقة تتشابه، والفعاليات كثيرة، والسؤال المعتاد يتكرر: من أين نبدأ؟

قالها مازحاً، لكن الفكرة علقت. تخيّل لو أنك كلما دخلت موقعاً تراثياً، جاءك صوت هادئ يقول: «أهلاً بك، هذا البيت بُني عام كذا، ولو حاب تكمل جولتك، الاتجاه الأفضل من هنا». أو حين تحتار بين فعالية وأخرى، يسألك الوكيل الذكي عن مزاجك: أدبي؟ تاريخ؟ أكل؟ ويقترح عليك المسار الأنسب.

ومع استمرار الحديث، مررنا بالقرب من أحد مراكز الخدمات الحكومية. ابتسم طلال وقال: «هنا تحديداً، الوكيل الذكي بيكون في قمّة فائدته”. بدل أن تكون الخدمات محصورة بين أرقام انتظار وشبابيك، يكون هناك وكيل حكومي موحّد، تفهمه ويفهمك، تسأله فيجيب، تطلب منه فينفّذ، دون أن تضطر للحضور أو الانتظار.

نضحك، ثم نغوص من جديد في أجواء ليالي المحرق، فتأخذنا الأجواء، وتسرقنا التفاصيل، وننسى حديث التقنية قليلاً. لكن المفارقة الطريفة أن هاتف طلال يهتز فجأة. رسالة تذكير بخدمة تحتاج إلى تجديد. ينظر إليها ويقول: «شوف.. هذه المشكلة».. رسالة تأتي في الليل، تُقرأ على عجل، تُنسى صباحاً، ثم تضيع بين عشرات الإشعارات... إلى أن تتذكرها بعد فوات الأوان.

يتنهد ويضيف: «تخيّل لو الوكيل نفسه يذكرك، وتسأله فوراً: وش المطلوب؟ ويقول لك، وتكمل الإجراء في دقيقتين وأنت تمشي». لا رابط، لا بحث، لا تطبيق تُحدّثه ولا كلمة مرور تنساها.

وأنا أستمع، أدركت أن الفكرة ليست ترفاً تقنياً، ولا حلماً بعيداً. هي ببساطة امتداد طبيعي لحياتنا اليومية، مثلما امتدّت دواعيس المحرق بين البيوت لتقرّب الناس من بعضهم. التقنية، حين تكون ذكية فعلاً، لا تُشعرك بوجودها، بل تعمل في الخلفية، بهدوء، مثل هذا البرد الخفيف الذي يجعل المشي أطول والكلام أدفأ.

ربما لا نحتاج أن نكون أول من يخترع، لكننا نملك كل المقومات لنكون من أوائل من يطبّق. البحرین صغيرة بحجمها، كبيرة بعقولها، ولو قررت أن تتبنّى فكرة «الوكيل الحكومي الموحّد»، فقد نجد أنفسنا بعد سنوات نمشي في ليالي المحرق، ونضحك على أيامٍ كنّا نضيع فيها بين تطبيقات وخدمات.. بينما كان الحل أبسط مما تخيّلنا.

* خبير تقني