المتابع لمجريات الأمور، هذه الأيام، يلاحظ بروز الدور التركي على الساحة الدولية، بحيث أصبحت أنقرة قبلة لقادة العالم يتقاطرون إليها واحداً تلو الآخر، ويتسابقون لخطب ودها. فهل الظروف والتغيرات التي جرت دولياً ساعدت تركيا للارتقاء بدورها الوظيفي من مهمة «الحراسة»، التي أوكلت إليها بعد الحرب العالمية الثانية، إلى أن تلعب دوراً في حفظ التوازنات الدولية الجديدة الآخذة بالتشكل؟
2016.. علامة فارقة
من الواضح أن التغيرات التي شهدتها الساحة الدولية، عام 2016، سيكون لها ما بعدها. أهمها بالنسبة لتركيا، فشل الانقلاب العسكري، الذي لم يطح بجماعة فتح الله غولن فحسب، بل أطاح الانقلاب أيضاً بشكل العلاقة التي ربطت تركيا مع الغرب. فقد استغلت تركيا الفشل المريع للانقلاب لتتخلص من دورها، الذي فرض عليها سابقاً، كدولة تابعة في فلك الغرب، لتصبح دولة نداً لأي من دوله.
الاتجاه نحو روسيا
فكيف حدث هذا التحول؟ لقد غضبت تركيا من المماطلة في قبول طلبها للانضمام للاتحاد الأوروبي، ثم جاء تعاطف أوروبا، والغرب عموماً، مع الانقلاب الفاشل بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير. فاقتنصت تركيا هذه الفرصة التاريخية، بمنتهى الذكاء، لتتجه شرقاً نحو روسيا، التي شاءت الظروف أن تكون علاقاتها سيئة مع الغرب، نتيجة الأزمة الأوكرانية، والعقوبات المفروضة على موسكو.
اهتزاز الاتحاد الأوروبي
تزامن هذا التطور مع الهزة التي أصابت أوروبا، نتيجة قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي. حيث رأى مراقبون أن ذلك وضع أول مسمار في نعش الاتحاد، إذ شجع تصرف بريطانيا دولاً أخرى أعضاء ربما تحذو حذوها مستقبلاً. حدث هذا في وقت أطل فيه تيار اليمين المتطرف برأسه، في دول القارة الأوروبية.
زعزعة أمريكا من الداخل
ومقابل هذه الهزة التي زعزعت كيان أوروبا، كان الأمريكيون على موعد مع فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة، الذي كان مجيئه بمثابة مفاجئة كبيرة، سواء جاء فوزه بتدخل من روسيا أو بدونه. وقد زادت شدة الهزة في أوروبا بصعود ترامب إلى قمة السلطة في أمريكا. حيث هاجم حلف شمال الأطلسي «الناتو»، الذي يقف في وجه روسيا، واتخذ مواقف إيجابية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأمر الذي أربك دول القارة بكاملها، والتي أصبحت تخشى على مستقبلها، نظراً للسرعة التي اختلت فيها التوازنات الدولية، التي أرست قواعدها تفاهمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أصبحت الآن في مهب الريح.
ثقة بالنفس
وفي ظل هذه الأجواء العالمية المتوترة، سارت تركيا في تنفيذ سياستها بخطى واثقة. فسارعت إلى توطيد علاقاتها مع روسيا، بتأسيس مشاريع مشتركة عملاقة معها، في مجالي الغاز والنفط. ثم قامت بتصفير مشاكلها الإقليمية من جديد، مع إسرائيل، ثم مع العراق، ثم جاء تفاهمها مع موسكو لوقف القتال في سوريا، والاتجاه بالأزمة السورية إلى مسار التفاوض بدل القتال، بمعزل عن واشنطن التي اشتكت من تهميشها من قبل روسيا وتركيا.
أهمية الدور التركي
في عالم اليوم
استغلت تركيا الوضع الناجم عن كل هذه العوامل، وحالة «عدم اليقين»، التي تهيمن على الدول، لتشق لنفسها طريقاً وضعها في مركز العالم، وفي منتصفه، بين الشرق والغرب، وأصبحت كلمتها مسموعة من كل الأطراف على الساحة الدولية، وأخذت تلعب مجموعة من الأدوار المتشابكة. وإلا ما الذي جاء برئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي إلى أنقرة مباشرة بعد زيارتها لواشنطن، عاصمة الدولة الأولى في العالم؟ وما الذي جاء إلى أنقرة برئيسة أقوى اقتصاد أوروبي، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بعد تيريزا ماي بأيام؟
إن اغتنام فرصة اللعب على التوتر الروسي - الغربي يدل على عبقرية سياسية فذة، رافقها تفانٍ وإخلاص، وحرفية في الأداء، لخدمة المصالح الذاتية للبلاد، مما جعل تركيا تبدو وكأنها بوابة روسيا. فمن أراد شيئاً من الكرملين عليه أن يأتي أولاً إلى المجمع الرئاسي الجديد، ذي الألف غرفة، في أنقرة.
الكل يحتاج تركيا
هكذا أصبح الكل بحاجة إلى تركيا، فازداد موقفها قوة على قوة. فروسيا تحتاجها، والصين تحتاجها، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأمريكا التي أعلن رئيسها ترامب أن ابنته معجبة بالرئيس التركي. وإقليمياً أيضاً الكل يحتاج تركيا. فإيران تحتاجها، والعراق يحتاجها، وإسرائيل تحتاجها، وحماس تحتاجها، وكذلك السلطة الفلسطينية، وحتى سوريا بشار الأسد تحتاجها، والمعارضة السورية تحتاجها. كما إن دول الخليج تقيم علاقات وطيدة معها، فأصبحت تركيا في وسط المعادلة الدولية، يحتاجها كل من هم على طرفي نقيض من بعضهم البعض.
الإمساك بخيوط اللعبة الدولية
خلاصة القول إذن، أن كل طرف من هذه الأطراف، الدولية والإقليمية، يريد أن تتوسط له تركيا عند طرف آخر. لهذا ارتفعت أسهمها لدى دول العالم، الكبيرة منها والصغيرة، وهو أمر لم يحصل في تاريخها الحديث. ولم يمر زمان، خلال المائة عام الماضية، كانت تركيا تمسك فيه بخيوط اللعبة الدولية بهذا الشكل. إضافة إلى أن المنطقة لم تشهد بروز زعيم إقليمي، عربي أو مسلم، أتقن فنون هذه اللعبة مثلما أتقنها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. فارتقى ببلاده من دولة تابعة، تدور في فلك الغرب، إلى دولة أصبحت عضواً في نادي الكبار. فهو يعرف من أين تؤكل الكتف!
* كاتب ومحلل سياسي أردني
2016.. علامة فارقة
من الواضح أن التغيرات التي شهدتها الساحة الدولية، عام 2016، سيكون لها ما بعدها. أهمها بالنسبة لتركيا، فشل الانقلاب العسكري، الذي لم يطح بجماعة فتح الله غولن فحسب، بل أطاح الانقلاب أيضاً بشكل العلاقة التي ربطت تركيا مع الغرب. فقد استغلت تركيا الفشل المريع للانقلاب لتتخلص من دورها، الذي فرض عليها سابقاً، كدولة تابعة في فلك الغرب، لتصبح دولة نداً لأي من دوله.
الاتجاه نحو روسيا
فكيف حدث هذا التحول؟ لقد غضبت تركيا من المماطلة في قبول طلبها للانضمام للاتحاد الأوروبي، ثم جاء تعاطف أوروبا، والغرب عموماً، مع الانقلاب الفاشل بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير. فاقتنصت تركيا هذه الفرصة التاريخية، بمنتهى الذكاء، لتتجه شرقاً نحو روسيا، التي شاءت الظروف أن تكون علاقاتها سيئة مع الغرب، نتيجة الأزمة الأوكرانية، والعقوبات المفروضة على موسكو.
اهتزاز الاتحاد الأوروبي
تزامن هذا التطور مع الهزة التي أصابت أوروبا، نتيجة قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي. حيث رأى مراقبون أن ذلك وضع أول مسمار في نعش الاتحاد، إذ شجع تصرف بريطانيا دولاً أخرى أعضاء ربما تحذو حذوها مستقبلاً. حدث هذا في وقت أطل فيه تيار اليمين المتطرف برأسه، في دول القارة الأوروبية.
زعزعة أمريكا من الداخل
ومقابل هذه الهزة التي زعزعت كيان أوروبا، كان الأمريكيون على موعد مع فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة، الذي كان مجيئه بمثابة مفاجئة كبيرة، سواء جاء فوزه بتدخل من روسيا أو بدونه. وقد زادت شدة الهزة في أوروبا بصعود ترامب إلى قمة السلطة في أمريكا. حيث هاجم حلف شمال الأطلسي «الناتو»، الذي يقف في وجه روسيا، واتخذ مواقف إيجابية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأمر الذي أربك دول القارة بكاملها، والتي أصبحت تخشى على مستقبلها، نظراً للسرعة التي اختلت فيها التوازنات الدولية، التي أرست قواعدها تفاهمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي أصبحت الآن في مهب الريح.
ثقة بالنفس
وفي ظل هذه الأجواء العالمية المتوترة، سارت تركيا في تنفيذ سياستها بخطى واثقة. فسارعت إلى توطيد علاقاتها مع روسيا، بتأسيس مشاريع مشتركة عملاقة معها، في مجالي الغاز والنفط. ثم قامت بتصفير مشاكلها الإقليمية من جديد، مع إسرائيل، ثم مع العراق، ثم جاء تفاهمها مع موسكو لوقف القتال في سوريا، والاتجاه بالأزمة السورية إلى مسار التفاوض بدل القتال، بمعزل عن واشنطن التي اشتكت من تهميشها من قبل روسيا وتركيا.
أهمية الدور التركي
في عالم اليوم
استغلت تركيا الوضع الناجم عن كل هذه العوامل، وحالة «عدم اليقين»، التي تهيمن على الدول، لتشق لنفسها طريقاً وضعها في مركز العالم، وفي منتصفه، بين الشرق والغرب، وأصبحت كلمتها مسموعة من كل الأطراف على الساحة الدولية، وأخذت تلعب مجموعة من الأدوار المتشابكة. وإلا ما الذي جاء برئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي إلى أنقرة مباشرة بعد زيارتها لواشنطن، عاصمة الدولة الأولى في العالم؟ وما الذي جاء إلى أنقرة برئيسة أقوى اقتصاد أوروبي، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بعد تيريزا ماي بأيام؟
إن اغتنام فرصة اللعب على التوتر الروسي - الغربي يدل على عبقرية سياسية فذة، رافقها تفانٍ وإخلاص، وحرفية في الأداء، لخدمة المصالح الذاتية للبلاد، مما جعل تركيا تبدو وكأنها بوابة روسيا. فمن أراد شيئاً من الكرملين عليه أن يأتي أولاً إلى المجمع الرئاسي الجديد، ذي الألف غرفة، في أنقرة.
الكل يحتاج تركيا
هكذا أصبح الكل بحاجة إلى تركيا، فازداد موقفها قوة على قوة. فروسيا تحتاجها، والصين تحتاجها، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأمريكا التي أعلن رئيسها ترامب أن ابنته معجبة بالرئيس التركي. وإقليمياً أيضاً الكل يحتاج تركيا. فإيران تحتاجها، والعراق يحتاجها، وإسرائيل تحتاجها، وحماس تحتاجها، وكذلك السلطة الفلسطينية، وحتى سوريا بشار الأسد تحتاجها، والمعارضة السورية تحتاجها. كما إن دول الخليج تقيم علاقات وطيدة معها، فأصبحت تركيا في وسط المعادلة الدولية، يحتاجها كل من هم على طرفي نقيض من بعضهم البعض.
الإمساك بخيوط اللعبة الدولية
خلاصة القول إذن، أن كل طرف من هذه الأطراف، الدولية والإقليمية، يريد أن تتوسط له تركيا عند طرف آخر. لهذا ارتفعت أسهمها لدى دول العالم، الكبيرة منها والصغيرة، وهو أمر لم يحصل في تاريخها الحديث. ولم يمر زمان، خلال المائة عام الماضية، كانت تركيا تمسك فيه بخيوط اللعبة الدولية بهذا الشكل. إضافة إلى أن المنطقة لم تشهد بروز زعيم إقليمي، عربي أو مسلم، أتقن فنون هذه اللعبة مثلما أتقنها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. فارتقى ببلاده من دولة تابعة، تدور في فلك الغرب، إلى دولة أصبحت عضواً في نادي الكبار. فهو يعرف من أين تؤكل الكتف!
* كاتب ومحلل سياسي أردني