قبل أربعة قرون من التقويم الميلادي أبدى سقراط قلقه من أن تدمر الكتابة القدرة الإبداعية للبشر، وهذا القلق نفسه يعاود الظهور في عصر الإنترنت. لعل مهنة التعليم الجامعي من أكثر المهن تحدياً نظراً لتطور طرق التعليم وتقنياته، ونظراً لتطور فهمنا حول أبحاث الدماغ وعمليات التعلم والابتكار. والسؤال المطروح هو كيف يمكن تعليم الابتكار في التعليم العالي؟
وللإجابة على هذا السؤال، لا بد من التطرق للعمليات المركبة لتعليم الابتكار كرحلة من خلال الاستشراف من أجل التحول المجتمعي والتنمية المستدامة.
من الجدير أن ننظر إلى الابتكار كرحلة لا مقصد، إن إدراك وفهم عملية الابتكار تقتضي فهمنا للمتعلم وحاجات المجتمع لإيجاد حل لمشكلة ما، ولكن عملية تعليم الابتكار يجب أن تتجاوز تقديم طرق حل بمعزل عن فهم السياق المتغير للمشكلة وتعدد الحلول باختلاف الجهة المستهدفة أو المؤسسة.
لذا إن تدريب الدماغ على التفكير الناقد والتفكير التصميمي أمر هام لتجذير تعليم الابتكار في التعليم الجامعي.
في ظل عالم التقنية والابتكار في الاتصالات والمعلوماتية لا بد من تطوير أدوار جديدة مبتكرة للتعليم، فالطالب من الجيل الحالي أصبح متمركزاً حول الهاتف الذكي والآيباد والحاسوب المحمول، وأدى ذلك إلى تغيير في مصدر المعلومات وتحول في الهوية الثقافية التي باتت تخطف حياتنا مما نطلق عليه «حرائق الغابات الرقمية».
وهناك فقدان للتواصل الإنساني وبروز ظاهرة ما يسمى «المواطن الرقمي» وما يقابله مصطلح «المهاجرون الرقميون» وفجوة الأجيال الرقمية والتي تسهم في حالة من التشتت والسلبية والعزلة، رغم الضجيج الذي نراه في عالم المدونات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. من ناحية أخرى، تسهم التقنية في ديمقراطية المعرفة والانتقال في الحضارة من حالة العزلة إلى التفاعل ثم التكامل عبر الشبكات الاجتماعية والتي تزيد من الوعي الاجتماعي والتنوع الثقافي والابتكار.
مما لا شك فيه أن التراكم المعرفي البشري زودنا بمعارف وأدوات لاستشراف المستقبل، لكن هناك تبايناً واضحاً بين المجتمعات والمؤسسات والأفراد في القدرة على استشراف المستقبل، والعمل على تطوير برامج مبتكرة للتكيف والاستجابة للتغيرات، مثل التطوير في طرق تحقيق أمن الطاقة من خلال التحول نحو التقنيات الخضراء كالطاقة المتجددة.
إن الانتقال التقني في القرن الماضي من المطبعة إلى الكهرباء إلى التلفاز كانت كلها تولد شعوراً بالحس الجماعي، حيث كانت العائلة تجتمع حول التلفاز أو الراديو ولكن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير في تكريس حالة الفردية والانعزال داخل المنزل والمجتمع.
في دراسة أمريكية عام 2013 تبين أن 25% من الأفراد بين 18 إلى 44 عاماً لا تفارقهم هواتفهم الخلوية أينما كانوا وأن 79% من الناس يقومون بالنظر إلى الهاتف الخلوي خلال الـ15 دقيقة الأولى من الاستيقاظ.
لكن متابعة نبضات المعلومات المجزأة لا يفيد دون ربطها بإطار مفاهيمي وسياق لفهم المعنى والدلالة من أجل التنمية المستدامة. للابتكار دور حيوي في التحول المجتمعي لأن دوام الحال من المحال، حيث ليس لدينا خيار بقبول أو رفض نتائج التقنية، بل علينا التكيف بذكاء ومهارة للتعايش والتفاعل الإيجابي مع تداعيات التقنية. مثلاً نجد أن الأطفال باتوا أقل لعباً في الهواء الطلق والطبيعة وأصبحوا يمضون أوقاتاً أكبر في ساحات اللعب الافتراضي «Cyber Playgrounds» وأدى ذلك إلى حالة الانعزال عن الطبيعة كمصدر للإلهام والتأمل والتعلم وما يطلق عليه «اضطراب نقص الطبيعة» «Nature deficit disorder» وهذا يحد من قدرة الجيل القادم على التواصل الاجتماعي والتفاعل مع المحيط البيئي والوعي بحاجات المجتمع المختلفة.
في المقابل، إن تأثير التقنية على التحفيز الذهني والذاكرة والاستجابة الحركية له أثر إيجابي ويمكن استثماره في التعلم النشط والتفاعلي، لكن هناك آثاراً سلبية تتمثل في ضعف التركيز والتشتت ومحدودية التواصل وضعف مهارات القراءة والكتابة. أدمغة جيل الألفية تتغير بفعل التقنية الرقمية وهناك دور للتقنية في إحداث نقلة نوعية في المسلمَّات العلمية، وهذا يندرج ضمن بنية الثورة العلمية وتغيير النسق لمنظومة العلم والتقنية. الطالب الرقمي يمثل تحدياً وسبباً لإحداث نقلة نوعية في نسق وطرق التعليم لإدارة الابتكار، فنحن الآن أمام جيل يتمتع بمهارات عالية على صعيد التحفيز الذهني والتراكم المعرفي الآني السريع، لكن هذه المميزات بحاجة إلى بيئة تعليمية لبناء ثقافة جديدة للابتكار في التعليم العالي ترتكز على التعلم من خلال دراسات الحالة وحل مشاكل القطاع العام والخاص والمجتمع، عبر الابتكار المبني على المستخدمين والابتكار المفتوح والابتكار الاجتماعي للاستفادة من الذكاء الجمعي. لكن المعضلة تكمن في المقولة الشائعة أن لكل مشكلة معقدة إجابة بسيطة ولكنها خاطئة.
خلاصة القول، إن تقنيات التعليم والتواصل المعرفي بدأت تُحدِث تحولات كبيرة على صعيد الاقتصاد والمجتمع والبيئة وهذا يؤثر على جملة ظواهر اجتماعية مثل: التنوع الثقافي، والتعاطف، والفهم، والهوية.
نحن أمام فئة متفائلة بآثار التقنية على تغيير العقل البشري ولسان حالها يقول «في كل شيء سيئ هناك أمر جيد للإنسان»، وفي المقابل هناك فئة تتبنى مقولة إن علينا مواجهة جيل لا يحب التعليم ويعتمد على الشاشة الإلكترونية كمصدر لتكوين الرأي بدون فهم للحقائق والسياق والمعنى.
تعليم الابتكار يتطلب ربط الأفكار في إطار مفاهيمي حتى يكون الابتكار من أجل التنمية والمواطنة والتقدم.
* رئيس قسم الابتكار وإدارة التقنية - كلية الدراسات العليا - جامعة الخليج العربي
وللإجابة على هذا السؤال، لا بد من التطرق للعمليات المركبة لتعليم الابتكار كرحلة من خلال الاستشراف من أجل التحول المجتمعي والتنمية المستدامة.
من الجدير أن ننظر إلى الابتكار كرحلة لا مقصد، إن إدراك وفهم عملية الابتكار تقتضي فهمنا للمتعلم وحاجات المجتمع لإيجاد حل لمشكلة ما، ولكن عملية تعليم الابتكار يجب أن تتجاوز تقديم طرق حل بمعزل عن فهم السياق المتغير للمشكلة وتعدد الحلول باختلاف الجهة المستهدفة أو المؤسسة.
لذا إن تدريب الدماغ على التفكير الناقد والتفكير التصميمي أمر هام لتجذير تعليم الابتكار في التعليم الجامعي.
في ظل عالم التقنية والابتكار في الاتصالات والمعلوماتية لا بد من تطوير أدوار جديدة مبتكرة للتعليم، فالطالب من الجيل الحالي أصبح متمركزاً حول الهاتف الذكي والآيباد والحاسوب المحمول، وأدى ذلك إلى تغيير في مصدر المعلومات وتحول في الهوية الثقافية التي باتت تخطف حياتنا مما نطلق عليه «حرائق الغابات الرقمية».
وهناك فقدان للتواصل الإنساني وبروز ظاهرة ما يسمى «المواطن الرقمي» وما يقابله مصطلح «المهاجرون الرقميون» وفجوة الأجيال الرقمية والتي تسهم في حالة من التشتت والسلبية والعزلة، رغم الضجيج الذي نراه في عالم المدونات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. من ناحية أخرى، تسهم التقنية في ديمقراطية المعرفة والانتقال في الحضارة من حالة العزلة إلى التفاعل ثم التكامل عبر الشبكات الاجتماعية والتي تزيد من الوعي الاجتماعي والتنوع الثقافي والابتكار.
مما لا شك فيه أن التراكم المعرفي البشري زودنا بمعارف وأدوات لاستشراف المستقبل، لكن هناك تبايناً واضحاً بين المجتمعات والمؤسسات والأفراد في القدرة على استشراف المستقبل، والعمل على تطوير برامج مبتكرة للتكيف والاستجابة للتغيرات، مثل التطوير في طرق تحقيق أمن الطاقة من خلال التحول نحو التقنيات الخضراء كالطاقة المتجددة.
إن الانتقال التقني في القرن الماضي من المطبعة إلى الكهرباء إلى التلفاز كانت كلها تولد شعوراً بالحس الجماعي، حيث كانت العائلة تجتمع حول التلفاز أو الراديو ولكن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير في تكريس حالة الفردية والانعزال داخل المنزل والمجتمع.
في دراسة أمريكية عام 2013 تبين أن 25% من الأفراد بين 18 إلى 44 عاماً لا تفارقهم هواتفهم الخلوية أينما كانوا وأن 79% من الناس يقومون بالنظر إلى الهاتف الخلوي خلال الـ15 دقيقة الأولى من الاستيقاظ.
لكن متابعة نبضات المعلومات المجزأة لا يفيد دون ربطها بإطار مفاهيمي وسياق لفهم المعنى والدلالة من أجل التنمية المستدامة. للابتكار دور حيوي في التحول المجتمعي لأن دوام الحال من المحال، حيث ليس لدينا خيار بقبول أو رفض نتائج التقنية، بل علينا التكيف بذكاء ومهارة للتعايش والتفاعل الإيجابي مع تداعيات التقنية. مثلاً نجد أن الأطفال باتوا أقل لعباً في الهواء الطلق والطبيعة وأصبحوا يمضون أوقاتاً أكبر في ساحات اللعب الافتراضي «Cyber Playgrounds» وأدى ذلك إلى حالة الانعزال عن الطبيعة كمصدر للإلهام والتأمل والتعلم وما يطلق عليه «اضطراب نقص الطبيعة» «Nature deficit disorder» وهذا يحد من قدرة الجيل القادم على التواصل الاجتماعي والتفاعل مع المحيط البيئي والوعي بحاجات المجتمع المختلفة.
في المقابل، إن تأثير التقنية على التحفيز الذهني والذاكرة والاستجابة الحركية له أثر إيجابي ويمكن استثماره في التعلم النشط والتفاعلي، لكن هناك آثاراً سلبية تتمثل في ضعف التركيز والتشتت ومحدودية التواصل وضعف مهارات القراءة والكتابة. أدمغة جيل الألفية تتغير بفعل التقنية الرقمية وهناك دور للتقنية في إحداث نقلة نوعية في المسلمَّات العلمية، وهذا يندرج ضمن بنية الثورة العلمية وتغيير النسق لمنظومة العلم والتقنية. الطالب الرقمي يمثل تحدياً وسبباً لإحداث نقلة نوعية في نسق وطرق التعليم لإدارة الابتكار، فنحن الآن أمام جيل يتمتع بمهارات عالية على صعيد التحفيز الذهني والتراكم المعرفي الآني السريع، لكن هذه المميزات بحاجة إلى بيئة تعليمية لبناء ثقافة جديدة للابتكار في التعليم العالي ترتكز على التعلم من خلال دراسات الحالة وحل مشاكل القطاع العام والخاص والمجتمع، عبر الابتكار المبني على المستخدمين والابتكار المفتوح والابتكار الاجتماعي للاستفادة من الذكاء الجمعي. لكن المعضلة تكمن في المقولة الشائعة أن لكل مشكلة معقدة إجابة بسيطة ولكنها خاطئة.
خلاصة القول، إن تقنيات التعليم والتواصل المعرفي بدأت تُحدِث تحولات كبيرة على صعيد الاقتصاد والمجتمع والبيئة وهذا يؤثر على جملة ظواهر اجتماعية مثل: التنوع الثقافي، والتعاطف، والفهم، والهوية.
نحن أمام فئة متفائلة بآثار التقنية على تغيير العقل البشري ولسان حالها يقول «في كل شيء سيئ هناك أمر جيد للإنسان»، وفي المقابل هناك فئة تتبنى مقولة إن علينا مواجهة جيل لا يحب التعليم ويعتمد على الشاشة الإلكترونية كمصدر لتكوين الرأي بدون فهم للحقائق والسياق والمعنى.
تعليم الابتكار يتطلب ربط الأفكار في إطار مفاهيمي حتى يكون الابتكار من أجل التنمية والمواطنة والتقدم.
* رئيس قسم الابتكار وإدارة التقنية - كلية الدراسات العليا - جامعة الخليج العربي