من أصعب اللحظات التي ترسم الحروف فيها كلماتها في دنيا سريعة التغيير في أحوالها، هي تلك المرتبطة بالحديث عن أحباب قلبك الذين ستفتقد أثرهم وظلهم في حياتك القادمة.. لحظات صعبة تختلط فيها الأفكار عندما يكتب قلمك مشاعره عن أحباب أثروا في حياتك كثيراً، بما قدموا في حياتهم من أعمال جليلة شهد بها القاصي والداني.. ولكنها مشيئة المولى الكريم، وأحوال الحياة المتسارعة.. فكلنا يعلم أننا سنرحل يوماً ما.. ولكن الفارق في ذلك هو من يسبقنا بالرحيل.. فتكن ومضات حياته ذكرى لا تختفي من أذهاننا.. إنك تود في مثل هذه اللحظات العصيبة لو أنك تطير بحثاً عن مشاعر تحتضنك من جديد مع من فقدت معانقته في دنيا البشر إلى الأبد..
لقد كتبت من قبل عن أناس أحباب إلى قلبي تركوا في حياتي أكبر الأثر ثم رحلوا عن دنيانا للملك الكريم.. كتبت عن والدي الحبيب «بونبيل» الذي أثرى حياتي بكريم الخصال والفعال، وأعطاني من حبه وكرمه وسخائه وعطفه ما عجزت أن أوفيه حقه ولن أستطيع لأنه ساعدني ليشتد عودي وأحقق أحلامي.. واليوم وبدموع تتقاطر أكتب عن والدي الثاني «بوهاني» عبدالله بن إبراهيم العبيدلي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.. الذي رحل فجأة عن دنيانا تاركاً أثره البليغ في حياة كل من قابله وعايشه ولامس أوتار قلبه المفعمة بالمحبة والحنان.. لم يكن بوهاني صورة عادية كباقي الصور، ولا شخصية عادية كباقي الشخصيات.. بل هو إشراقة مضيئة من إشراقات زمان «الطيبين» الذين كابدوا وأفنوا حياتهم من أجل لقمة العيش، ومن أجل أن يقدموا لهذا الوطن النماء الحقيقي في مجالات تميزهم.. اعذروني فكتابتي اليوم مبعثرة.. أسرد من خلالها بعض الومضات الخاطفة من حياة هذا الإنسان الطيب..
غادر الغالي بوهاني دنيانا عن عمر يناهز 78 عاماً قضاها في خدمة هذا الوطن سواء على المستوى التطوعي أو المهني أو الأسري.. فقد بدأ عمله في شركة «بابكو» في عمر صغير حيث كان يبلغ عمره آنذاك 16 عاماً، بدأ العمل خلالها في مصنع التكرير، ودرس في مدرسة تدريب بابكو «الأبرنتس»، وتدرج في عمله حتى وصل إلى منصب «مسؤول نوبات»، وقضى في خدمة «بابكو» ما يقارب 46 عاماً كان من خلالها مثالاً للموظف المخلص المتفاني في عمله بشهادة كل من عاصره عن قرب خلال تلك الفترة، وما زالوا يتذكرون إخلاصه وانضباطه وحسن تعامله مع الموظفين، وأذكر أنني كنت أراقب كده وتعبه في السنوات الأخيرة في عمله قبل أن يتقاعد، حيث كان يعمل بنظام النوبات ويحرص على الخروج مبكراً لعمله حتى يصل في الوقت المناسب..
وفيما يخص الشأن التطوعي، فقد قدم عطاء خصباً في المجال التطوعي الرياضي، حيث بدأت انطلاقته الكروية في الخمسينات من خلال مشاركته كلاعب كرة قدم مع جمعية الحالة والزمالك في الدورة الصيفية، ثم كان عضواً مؤسساً لنادي الحالة في الستينات حيث شارك في عضوية مجلس إدارة النادي وشغل منصب «مدير النادي» منذ ذلك الحين وحتى عام 1988، وعايش حينها الفترة الذهبية لنادي الحالة من خلال فوز فريق كرة القدم بالدوري وكأس الأمير، فضلاً عن تربع فريق كرة الطائرة على عرش الصدارة، كما اهتم خلال فترة عمله في تلك الحقبة بالجانب التربوي والثقافي، فقد كان معلماً وأباً موجهاً للجميع.
أما عن حياته الاجتماعية فقد عرف عنه اهتمامه بالتواصل مع الناس في جميع المناسبات، وارتياده لمعظم ديوانيات المحرق، حيث كان يحرص ليلياً على الالتقاء برواد الديوانيات والاستئناس بهم، فضلاً عن تواجده المستمر في نادي الحالة بين المغرب والعشاء لمناقشة الشأن الرياضي والحياة العامة.. وقد لمست من خلال كوكبة المعزين الذين حضروا لمجلس العزاء حبهم الشديد له لما عرف عنه من طيبة وذوق ورقة في التعامل الإنساني وابتسامة لا تفارق محياه.. فقد تكررت هذه الكلمات عنه: طيب، وفي، نقي، سمح، هين، لين، كريم وسخي.. وهي الكلمات التي عرف بها أيضاً في محيطه الأسري..
وعرف عنه محافظته الشديدة على أداء الصلاة في مسجد نادي الحالة، بل كان من أوائل الحضور في صلاة الفجر مترنماً بآيات الله البينات.. يبادر بالسلام على المصلين، ويسأل عنهم إذا غابوا.. كان هادئاً في تعامله، يحتضن الجميع بالحب والحنان، ويغمرهم بالعطف بلمساته الأبوية الحانية.. ما إن يراك إلا وقابلك بابتسامته المعهودة وبضحكاته المميزة فيرحب بك ويسأل عن صحتك وأحوالك، ويفزع إلى خدمتك ويغدق عليك من كرمه وسخائه.. يحب «لحظات الفرح» مع أهله ويحتفل معهم في المناسبات السعيدة، ويحب أن يلتفت حولهم في كل حين فلا يرضى أن تمر بهم ضائقة تكدر عيشهم، فتراه الأول في مد يد العون والمساندة.. قام على رعاية أخت زوجته المقعدة المريضة على سريرها وحرص على توفير جميع متطلباتها.. كما كان باراً بوالدته رحمها الله بصورة فاقت التصورات.. اعذروني.. مهما تحدثنا عن خصاله النبيلة فلن يسعنا المقام لسردها في هذه السطور..
ما تعلمته وذكرت به نفسي بعد رحيل الوالد بوهاني إنما الإنسان كما قال أحد المعزين «في إقامة قصيرة لن تتجدد تأشيرته إن انتهت».. لذا فهو يحرص أن يبصم بصماته في كل ميدان، ويتواصل مع الناس ويحضر مجالس الكبار ويكون له شأن في العمل التطوعي والإنساني الذي سيخلد ذكره.. على المرء أن يلبس لباس «الأخلاق الراقية» التي ستتذكره بها الناس، لأنه في نهاية المقام يرجو أن يكثر من عدد محبيه حتى تزداد الدعوات الصادقات له بالرحمة والمغفرة حين تأتي ساعة الرحيل.. أما إن عشت وحيداً همك نفسك وبضعة أفراد من حولك.. فإنك ستقضي نحبك تاركاً أثراً لا يتجاوز موطئ الأقدام!! رحمك الله يا أبا هاني وغفر لك وجمعنا بك ومن نحب في الفردوس الأعلى.
* ومضة أمل:
رجال زمن الطيبون لا تتكرر سيرتهم المميزة أبداً ما حيينا.. هم قدوات وأثر في حياتنا.. وأصالة فريدة لا تراها في محيط من تعايشهم في زمن التيهان.. يا ليتنا نسطر سيرتهم بقصص نجاح تتذكرها الأجيال.
لقد كتبت من قبل عن أناس أحباب إلى قلبي تركوا في حياتي أكبر الأثر ثم رحلوا عن دنيانا للملك الكريم.. كتبت عن والدي الحبيب «بونبيل» الذي أثرى حياتي بكريم الخصال والفعال، وأعطاني من حبه وكرمه وسخائه وعطفه ما عجزت أن أوفيه حقه ولن أستطيع لأنه ساعدني ليشتد عودي وأحقق أحلامي.. واليوم وبدموع تتقاطر أكتب عن والدي الثاني «بوهاني» عبدالله بن إبراهيم العبيدلي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.. الذي رحل فجأة عن دنيانا تاركاً أثره البليغ في حياة كل من قابله وعايشه ولامس أوتار قلبه المفعمة بالمحبة والحنان.. لم يكن بوهاني صورة عادية كباقي الصور، ولا شخصية عادية كباقي الشخصيات.. بل هو إشراقة مضيئة من إشراقات زمان «الطيبين» الذين كابدوا وأفنوا حياتهم من أجل لقمة العيش، ومن أجل أن يقدموا لهذا الوطن النماء الحقيقي في مجالات تميزهم.. اعذروني فكتابتي اليوم مبعثرة.. أسرد من خلالها بعض الومضات الخاطفة من حياة هذا الإنسان الطيب..
غادر الغالي بوهاني دنيانا عن عمر يناهز 78 عاماً قضاها في خدمة هذا الوطن سواء على المستوى التطوعي أو المهني أو الأسري.. فقد بدأ عمله في شركة «بابكو» في عمر صغير حيث كان يبلغ عمره آنذاك 16 عاماً، بدأ العمل خلالها في مصنع التكرير، ودرس في مدرسة تدريب بابكو «الأبرنتس»، وتدرج في عمله حتى وصل إلى منصب «مسؤول نوبات»، وقضى في خدمة «بابكو» ما يقارب 46 عاماً كان من خلالها مثالاً للموظف المخلص المتفاني في عمله بشهادة كل من عاصره عن قرب خلال تلك الفترة، وما زالوا يتذكرون إخلاصه وانضباطه وحسن تعامله مع الموظفين، وأذكر أنني كنت أراقب كده وتعبه في السنوات الأخيرة في عمله قبل أن يتقاعد، حيث كان يعمل بنظام النوبات ويحرص على الخروج مبكراً لعمله حتى يصل في الوقت المناسب..
وفيما يخص الشأن التطوعي، فقد قدم عطاء خصباً في المجال التطوعي الرياضي، حيث بدأت انطلاقته الكروية في الخمسينات من خلال مشاركته كلاعب كرة قدم مع جمعية الحالة والزمالك في الدورة الصيفية، ثم كان عضواً مؤسساً لنادي الحالة في الستينات حيث شارك في عضوية مجلس إدارة النادي وشغل منصب «مدير النادي» منذ ذلك الحين وحتى عام 1988، وعايش حينها الفترة الذهبية لنادي الحالة من خلال فوز فريق كرة القدم بالدوري وكأس الأمير، فضلاً عن تربع فريق كرة الطائرة على عرش الصدارة، كما اهتم خلال فترة عمله في تلك الحقبة بالجانب التربوي والثقافي، فقد كان معلماً وأباً موجهاً للجميع.
أما عن حياته الاجتماعية فقد عرف عنه اهتمامه بالتواصل مع الناس في جميع المناسبات، وارتياده لمعظم ديوانيات المحرق، حيث كان يحرص ليلياً على الالتقاء برواد الديوانيات والاستئناس بهم، فضلاً عن تواجده المستمر في نادي الحالة بين المغرب والعشاء لمناقشة الشأن الرياضي والحياة العامة.. وقد لمست من خلال كوكبة المعزين الذين حضروا لمجلس العزاء حبهم الشديد له لما عرف عنه من طيبة وذوق ورقة في التعامل الإنساني وابتسامة لا تفارق محياه.. فقد تكررت هذه الكلمات عنه: طيب، وفي، نقي، سمح، هين، لين، كريم وسخي.. وهي الكلمات التي عرف بها أيضاً في محيطه الأسري..
وعرف عنه محافظته الشديدة على أداء الصلاة في مسجد نادي الحالة، بل كان من أوائل الحضور في صلاة الفجر مترنماً بآيات الله البينات.. يبادر بالسلام على المصلين، ويسأل عنهم إذا غابوا.. كان هادئاً في تعامله، يحتضن الجميع بالحب والحنان، ويغمرهم بالعطف بلمساته الأبوية الحانية.. ما إن يراك إلا وقابلك بابتسامته المعهودة وبضحكاته المميزة فيرحب بك ويسأل عن صحتك وأحوالك، ويفزع إلى خدمتك ويغدق عليك من كرمه وسخائه.. يحب «لحظات الفرح» مع أهله ويحتفل معهم في المناسبات السعيدة، ويحب أن يلتفت حولهم في كل حين فلا يرضى أن تمر بهم ضائقة تكدر عيشهم، فتراه الأول في مد يد العون والمساندة.. قام على رعاية أخت زوجته المقعدة المريضة على سريرها وحرص على توفير جميع متطلباتها.. كما كان باراً بوالدته رحمها الله بصورة فاقت التصورات.. اعذروني.. مهما تحدثنا عن خصاله النبيلة فلن يسعنا المقام لسردها في هذه السطور..
ما تعلمته وذكرت به نفسي بعد رحيل الوالد بوهاني إنما الإنسان كما قال أحد المعزين «في إقامة قصيرة لن تتجدد تأشيرته إن انتهت».. لذا فهو يحرص أن يبصم بصماته في كل ميدان، ويتواصل مع الناس ويحضر مجالس الكبار ويكون له شأن في العمل التطوعي والإنساني الذي سيخلد ذكره.. على المرء أن يلبس لباس «الأخلاق الراقية» التي ستتذكره بها الناس، لأنه في نهاية المقام يرجو أن يكثر من عدد محبيه حتى تزداد الدعوات الصادقات له بالرحمة والمغفرة حين تأتي ساعة الرحيل.. أما إن عشت وحيداً همك نفسك وبضعة أفراد من حولك.. فإنك ستقضي نحبك تاركاً أثراً لا يتجاوز موطئ الأقدام!! رحمك الله يا أبا هاني وغفر لك وجمعنا بك ومن نحب في الفردوس الأعلى.
* ومضة أمل:
رجال زمن الطيبون لا تتكرر سيرتهم المميزة أبداً ما حيينا.. هم قدوات وأثر في حياتنا.. وأصالة فريدة لا تراها في محيط من تعايشهم في زمن التيهان.. يا ليتنا نسطر سيرتهم بقصص نجاح تتذكرها الأجيال.