منذ أيام تلقيت اتصالاً هاتفياً من إحدى الصديقات العزيزات تزّف لي خبر تخرج ابنتها من إحدى المدارس الخاصة، وكم كانت فرحتها بتفوق ابنتها كبيرة، وكأن الدنيا من حولها تكتسي فرحاً ونشوة.. ولكنها في نفس الوقت طرحت عليّ سؤالاً صعباً شَعِرتْ هي بسكوتي فترة ليست بالقصيرة، وحيرتي في الرد عليه بالسرعة التي توقعتها. كانت تقول لي بشكل مباشر وصريح «إن ابنتي ترغب أن تكمل تعليمها الجامعي في مجال فن الطهي لأنها تجد نفسها في هذا التخصص.. وأنا ووالدها نريد لها أن تدرس الطب أو الهندسة بحكم مجموعها المرتفع، ولأنه أكثر ضماناً للمستقبل، والفرص فيه أكبر للحصول على وظيفة حكومية مستقرة بعد التخرج.. ولا تنسي بأنني طبيبة ووالدها مهندس».هذه الحيرة أجدها هذه الأيام لدى الكثير من أولياء الأمور ممن أعرفهم الذين يحاولون توجيه أبنائهم للتخصص في مجالات يرغبونها هم، بحكم كونهم في نفس التخصص أو يرون هذا التخصص بحكم خبرتهم في الحياة أكثر اطمئناناً وضماناً للمستقبل.. بينما يرى الأبناء عكس ذلك ويودون دراسة تخصصات حديثة أكثر قرباً من ميولهم وأكثر ملائمة للعصر الذي يعيشون فيه المزدحم بالاختراعات والتقنيات السريعة.. والأسواق التي تتقبل كل تخصص جديد.والسؤال الذي يشغلني ولم أطرحه على صديقتي التي بشرتني بتخرج ابنتها وهو هل لابد أن تكون طموحات الأبناء مشابهة لرغبات الآباء؟ وهل المهن التي اختارها الآباء في فترة سابقة وبرزوا فيها وأصبحت لهم خبرة طويلة هي التخصص الأنسب للأبناء بصرف النظر عن ميولهم وتغير الوقت والظروف؟ وهل لابد أن يكمل الأبناء نفس تخصصات والديهم؟يبدو – ونحن على مشارف تخرج الكثير من أبنائنا من الثانوية العامة من المدارس الحكومية مع نهاية العام الدراسي – يستوقفنا معتقد سائد لدى البعض من الناس لم يتغير بعد.. وهو أن هناك تخصصات معينة كالطب والهندسة والعلوم هي التخصصات الدائمة التي تأتي في مقدمة التخصصات، كما كنا نشاهد ذلك في الأفلام والمسلسلات، ولابد لمن يحصلون على النسب العالية في الثانوية العامة من التخصص في أي منها. قد يكون هذا الكلام في مجمله صحيح بحكم أن الطب والهندسة والعلوم هي تخصصات دائمة تحتاجها البشرية في كل زمان.. ولكن لا يمكن أن يقتصر الاحتياج البشري عليها فقط دون سائر التخصصات الأخرى كالحقوق والتجارة وإدارة الأعمال وغيرها من التخصصات الحديثة. توجد جهود كثيرة تبذلها الجهات الرسمية المعنية في سبيل توضيح حجم احتياجات البحرين من التخصصات المستقبلية في ضوء المؤشرات والأرقام التقديرية المعلنة للمستقبل القريب والبعيد وفق الرؤية الاقتصادية 2030.. ويتم هذا التوضيح والشرح عن طريق الالتقاء بالطلبة الذين على وشك التخرج من المدارس الثانوية وشرح فرص العمل المتاحة في السنوات القادمة.. ثم هناك أيضاً جهود الجامعات المحلية في شرح برامجها ومدى اتساقها مع احتياجات سوق العمل.إن القطاع الحكومي لم يعد وحده الجهة القادرة على استيعاب كل التخصصات، فهذا القطاع أصبح شبه متشبع ومثقل بما فيه، والفرص فيه قد لا تكون كبيرة.. بالمقابل هناك القطاع الخاص الذي ينمو بسرعة ويستوعب الجزء الأكبر من الخريجين، وهو ما يجب التركيز عليه مستقبلاً فيما يتعلق بفرص التوظيف للمواطنين، عن طريق وضع القوانين المحفّزة لكلا الطرفين، ورفع سقف الأجور التي تناسب مؤهلات الخريجين باختلاف تخصصاتهم.. فلا مفر من أن يقوم هذا القطاع الخاص بدوره في توظيف البحرينيين واستيعاب الجزء الأكبر من أعداد الخريجين للإسهام في حركة التنمية الاقتصادية.ومن الطموحات اللافتة والمفرحة في ذات الوقت.. والتي لا تدعو الى الحيرة، وإنما تدعو إلى الفخر والاعتزاز والمساندة.. وجود العديد من المشاريع الخاصة الصغيرة والمتوسطة التي بدأ الشباب البحريني الطموح بمختلف تخصصاتهم الجامعية يقبل عليها ويغامر فيها، بعد أن كانت حكراً على الشركات الأجنبية، أو لم تكن موجودة في السابق.. مشاريع خدمات وتسهيلات مبهرة وطموحة في مجال التكنولوجيا والمطاعم وخدمات التوصيل وغيرها عبر مختلف الوسائل التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، بما يلبي الاحتياجات اليومية للمواطنين والمقيمين والزوار.. وتواكب العصر الحالي في سرعته وجودة الخدمة.. مما يعني أن الفرص موجودة في كل وقت لمن يبحث عنها.. وأن طبيعة الوقت هي التي تفرض نوعية التخصصات المطلوبة في سوق العمل.. فلا خوف على الخريجين في أي تخصص من ندرة الفرص، شريطة ألا يتم إغراق السوق بتخصص محدد الى درجة التشبع.. فالطب والهندسة وإدارة الأعمال والحقوق وغيرها من التخصصات مطلوبة في كل وقت، ولكن من يحدد نسبة احتياجاتها المستقبلية هي خطط التنمية ومؤشرات المستقبل لكل تخصص.وأخيراً أوجه رسالتين لصديقتي وابنتها أقول فيهما:صديقتي العزيزة: هناك فرق بين الحرص على مستقبل الأبناء وبين فرض مستقبل الأبناء.. لا تجبري ابنتك على اختيار تخصص لا ترغب فيه.. دعيها تختار التخصص الذي يعجبها وتميل إليه ولا تستصغري ما ترغب فيه.. فهذا مستقبلها الذي تتمنى أن تخطو إليه بخطوات ثابتة وطموحة، وتحقق فيه ذاتها وليس تلبية لرغبة والديها.. فهناك الكثير من الحالات التي ترك فيها الأبناء مقاعد الدراسة لعدم استطاعتهم الاستمرار في تقبّل تخصص لا يجدون أنفسهم فيه.. فمن يختار شيئاً يحبه سيبدع فيه مهما اعترضته من صعاب ومعوقات.. فالحب والحماس كفيلان بخلق جذوة التحدي والإصرار على النجاح.ابنة صديقتي العزيزة: إن قرار التخصص قرار مصيري يترتب عليه النجاح او الفشل فيما يخص مستقبلكِ الأكاديمي والمهني والاجتماعي. حَكمي لغة العقل والموضوعية عند اتخاذ القرار.. حددي رغبتكِ الحقيقية في اختيار التخصص توافقاً مع امكانياتك بدون تقزيم او تهويل وبعيداً عن العواطف.. استمعي الى نصائح الوالدين والأهل والأصدقاء الناجحين، واقنعي والديك بأسباب اختيار التخصص.. كوني صادقة مع نفسك، فان لم تستطيعي دراسة التخصص الذي ترغبين فيه لابد من وجود البديل الأنسب لميولك ورغباتك وقدراتك..ان اختيار التخصص الجامعي حق أصيل للطالب الجامعي.. وإن مسيرة الإبداع والتفوق والنجاح لأبنائنا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى قدرتنا على مساعدتهم في تحقيق طموحهم ورغباتهم في التخصصات التي يرغبونها دون إرغام أو ضغط أو قيد.. فنحن بذلك نعلّمهم فن اختيار القرار لمستقبل هم سيعيشون ويعملون وينجزون فيه.